الاثنين، 26 نوفمبر 2012

ما بين الشيخ موسى ودابته (كدمبس) ..


الشيخ موسى بين حفيدتيه 2012/8/27
الزمان العام 1949 حيث دارت وقائعها ، المكان  شرق السودان وصولا إلى الحدود الأثيوبية ، دلوفا إلى أراضي الدولة الشقيقة الجارة كانت حركة التجارة والتبادل التجاري المعروف ما بين الجارين تتم عبر الجمال وما تحمله من شتى أنواع البضائع ، الشيخ موسى كان ناشطا في تجارة الحدود بل تلك كانت مهنته الأساس ، كان حريصا للغاية على تربية جماله المنوط بها حمل الأثقال تربية خاصة منذ أن يكون الجمل رضيعا ، تنهد الشيخ موسى إذ هو يتجتر الذكريات البعيدة الغائرة في حنايا الذاكرة ونحن في العام 2012 وهو يحكي لنا أقصوصته مع جمله (كدمبس) ، قال عبر نظرة هزيلة مجهدة إلى حيث تتصاعد خيوط دخان الماضي الذي لن يعود  وهو يردد آه يا كدمبس لن أنساك أبدا ..
ثم إستطرد :  كان مطية رائعة ، ربيته منذ أن كان صغيرا ، إذا نظر لي عرفت ماذا يريد ، وإذا نظرت إليه بطريقة ما يعلم ماذا أريد ، كانت لغة العيون هي السائدة بيننا ، أما إذ تكلم عبر همهمات معلومة وبنغمات محدده فأعلم أنه في حاجة لشئ آخر عجزت لغة العيون بيننا من تلبيته ، فأفهم فورا ماذا يدور في خلده .
ذات يوم أرتكب كدمبس خطأ شنيعا ، فأخذت السوط وضربته ضربا مبرحا تأديبا لفعلته ، غير إنه وفيما بعد أن تجرع عذابات السوط العلقم كحلني بنظرة عميقة الأغوار ، فهمت على الفور ماذا يريد ، قلت لرفقاء الدرب في رحلات الحياة والموت إلى أثيوببا بأن كدمبس قد قرر الإجهاز عليّ ، ضحك الرفاق ، وقالوا : كذبت هذه المرة ، فكيف بك تعلم بان الجمل من الممكن أن يتخذ قرارا بقتل صاحبة ، قلت : لكنني أفهم هذه الرفيق تماما ، على كل سنمضي إلى أثيوبيا وسننظر ونترقب عماذا إذا كنت محقا أم تراني جنحت إلى الخيال .
سار الرفاق بل سارت القافلة ، أربعة رجال على ظهور أربعة جمال ، وعندما أرخي الليل سدولة في منطقة ما من الحدود ، أناخوا جمالهم بعد أن أحكموا عقالها ، غير إن الشيخ موسى إتخذ أجراءا أمنيا صارما وإضافيا .
قال لرفاقة : سننام مع إتجاه الريح لا عكس الريح هذه المرة لنحرم الجمال من إشتمام روائحنا إذ نحن نيام ، إذ هي كالكلاب تتمتع بخاصية خارقة على التتبع عبر الرائحة ، أخذ الشيخ موسى سرج جمله كدمبس ، والفراش الذي يجلس عليه ونصب على الأرض فراشا وهميا على بعد أكثر من كيلو متر من حيث كان كدمبس ورفقاقه الجمال ، ثم وضع السرج فوق الفراش ، ثم نام في مكان أبعد من حيث كان الفراش الوهمي ، وفيما قبل بضع ساعات من شروق الشمس كان الجمل كدمبس قد نهض مشيا على ثلاث أرجل فقط بحثا عن سيده ، بعد تم حرمانه من التمتع بخاصية التتبع عبر حاسة الشم الخارقة .
مضي كدمبس في بحثه الدؤوب عن سيده ، إلى أن وجد الفراش الوهمي والسرج موضوع عليه فأيقن بان سيده الشيخ موسى ينام هاهنا ، ما هي إلا برهة حتى وضع ثقله كله فوق الفراش وأضحى يدوس عليه بصدره ذاك الثقيل إلى أن تفتت تماما ، أيقن كدمبس بأنه قد أقتص لنفسه وإنه قد قتل سيده جزاءا وفاقا على ضربه أياه ذات يوم مصداقا كاملا لتفسير الشيخ موسى لرفاقه ..
أشرقت الشمس وأستتب الأمر للضياء ، نهض الرجال الأربعة من مخادعهم وذهبوا كل إلى حيث كانت دوابهم تنتظر ، توجه الشيخ موسى إلى المخدع الوهمي فوجد كدمبس وقد أحاله إلى رماد ، قال له  معاتبا : كدمبس ماذا فعلت ؟..
نظر كدمبس لسيده كأنه لا يصدق أن يراه حيا بعد أن نهض من تحت صدره وجمع شتات رفاته وأضحى حي يتلكم بل ويعاتب أيضا ، أرتج على كدمبس ، فمد عنقه على الأرض وأصدر تأوهات وزفرات حزينة ثم أغمض عينيه حتى لا يرى المزيد من الشيخ موسى العائد إلى الحياة من تحت صدره لتوه ..
أمره الشيخ موسى بالنهوض ففعل في تأدب وخجل ، فك عقال قدمه ثم أحكم السرج فوق ظهره مجددا ، ومضى الرجال الأربعة صوب أثيوبيا ، وبعد أن باعوا متاعهم وفي رحلة العودة ، كان كدمبس قد إتخذ قرارا أحاديا ترجمه لواقعة محاولته الفاشلة إغتيال سيده ..
كانت هناك حفر عميقة على الطريق تحدثها الأفيال الغادية والرائحة بأقدامها الثقيلة وإذ الأرض مبتلة بالماء ،  في ذلك المكان والزمان كان شرق السودان غابة ترتع فيها الضواري وشتى أنواع المفترسات من الحيوان ، جمال الرفاق تجاوزت تلك الحفر ، غير إن كدمبس إختار لنفسه حفرة عميقة من تلك ليسقط فيها ، لقد قرر كدمبس (الإنتحار) بطريقته الخاصة ، وبالفعل فقط تحطمت ضلوع صدره فضلا عن كسر مركب في قدمه اليمني ، لم يعد كدمبس قادرا على مواصلة السير أذ هو إختار الموت بتلك الطريقة وفي ذلك المكان الموحش ، ترجل الشيخ موسى منه ، وطلب من رفاقة إكمال الرحلة حتى ينجز مهمته الأخيرة والمؤلمة والخاصة جدا مع صديق عمره كدمبس ، ثم قام بنحره وسلخه وتجفيف لحمه ليحمله بعدئذ لسكان أحدى القرى المجاورة بشرق السودان ، وهذا ماتم ، ومن وقتها حرم الشيخ موسى على نفسه لحم الجمال لشئ ما في نفس يعقوب ..
كدميس كان جملا ، والجمل حاقد مصداقا للمثل الشعبي (أحقد من جمل) ، غير إنه وفي ذات الوقت يملك ضميرا لا يملكه البشير ، هذا الضمير قادر على التأنيب وبقدر يدفعه لإتخاذ قرار حاسم بمعاقبة نفسه بنفسه على مشروع جريمته التي لم تكتمل أركانها ، هنا علينا أن نجتر الآيات الكريمات لنستنبط منها المزيد من المعاني القرآنية ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق