الأحد، 15 أغسطس 2021

سؤالي لك ياخور القيعة الريف الجنوبي امدرمان

لماذا قتلت إبني وفلذة كبدي أحمد ضرغام ؟..

😭😭

لن انسى أبدا ماحييت يوم الأحد 8 أغسطس 2021 ، حوالي الساعة الثانية ظهرا ، في ذلك اليوم حيث نزل الغيث مدرارا كما ينبغي كعطاء خير من رب رحيم ، والطقس كان اقرب للبرودة ، والسماء ملبدة مابرحت بالغيوم ، كنت مستلقي على ظهري طوال الوقت إذ لا ازال حريصا على موضع العملية الجراحية لرتق الفتاك الإربي التي اجريتها قبل شهر .

فجاة سمعت طرقا عنيفا بالباب ، واصوات تنادي إبني الصغير هجرس .. هجرس ، اسرع هجرس للباب ، سمعتهم يقولون : ابوك موجود ؟..

ـ  نعم موجود ..

لم ينتظروا الإذن بالدخول ، دخولوا مسرعين وكانوا حوالي ستة اشخاص في أعمار مختلفة ، ومنهم من هم في عمر أحمد ضرغام ..

كبيرهم رفع كفيه وقال لي بصوت جهور :

الفاتحة ..

الفاتحة عندنا في السودان هي صيغة التعزية في حالات الوفاة ..

فعلت كما أرادوا وأنا لا ازال مستلقي على سريري اذ لم يتيحوا لي أصلا فرصة للنهوض لاستقبالهم كما ينبغي ..

في تلك اللحظات العاصفة والرهيبة كان عقلي قد بدأ يعمل باقصى طاقته ..

ياترى الفاتحة في من ولروح من ؟ ..

قلت لنفسي ربما ان كبيرهم كان مغتربا عاد لأرض الوطن وانه جاء لأداء واجب العزاء في فقيد لنا في الشهور الخوالي ، ربما عمي حمزة مصطفى ، ربما خالي يحي عبد الله عليهما رحمة الله ..

غير إنني فشلت في معرفة كبيرهم وصاحب الأمر بالفاتحة ..

انتهينا من تلاوة الفاتحة ، على الفور عاجلني بطعنتة السامة والقاتلة ...

ـ ابنك أحمد غرق في خور القيعة ..

تعال معنا مع بطاقتك الشخصية لاستلام الجثمان ..

بسرعة .. بسرعة ..

عندها حاولت النهوض من السرير ، وحلقي بدأ في إفراز ذلك اللعاب الخانق واللزج ..

بعد لأي جلست ..

حاولت النهوض ففشلت

أحسب ان الأرض مادت تحت قدمي ..

 ـ  انت تعرف إبني أحمد ؟..

ـ نعم وانا الذي انتشلت جثمانة من الخور ..

أحد اصدقاء أحمد كان معهم ، تذكرته عندما اخذ بالصراخ وبالعويل ..

صوت النحيب وصل للجزء الداخلي من البيت حيث والدته واخواته ..

اسرعن ركضا حيث انا وهو ننتحب ..

مات أحمد ضرغام في الترعة ، تسربل المعني من بين ثنايا العويل ..

ثم ضج البيت صراخا ونحيبا وصلت الأصوات إلى الجيران فجاءوا مسرعين زرافات ووحدانا..

كبيرهم كان يلح عليّ للذهاب معهم لمركز الريان الطبي بالقيعة والقريب من خور القيعة أو خور الموت ، حيث الجثمان مسجى لإستلامه .

غير إنني كنت في حالة يرثى لها لا تسمح لي أصلا بالحركة والمشي ناهيك عن الذهاب معهم ، كان يداي قد اضحتا ثقيلتا الوزن مع تنميل بهما مخيف ، كنت اترنح كمخور ، واصيح باعلى صوتي ..

ـ أحمد ضرغام لقد كسرت ظهري ، أحمد ضرغام أين انت ياحبيب ..

كنت ابكي بحرقة لقد اصابني سهم الرجل في مقتل ..

طبيبة شابة وجارة لا اعرفها ، احست بأني في خطر ، امسكت يدي واخذت في تدليكهما ، بينما زميلة لها أخرى تولت اليد الاخري ، قلت لهن اريد مصحفي ، قرأت ثلاثة من السور وانا في حالة نحيب مر ..

جاري عبد الله عبد الفضيل هذا الرجل العظيم له الشكر والإمتنان أخذ بطاقتي الشخصية ومضى مع جماعة التبليغ لاستلام الجثمان ..

بعد حوالي الساعة جاءوا به مسجى ومغطى ، وضعت المصحف ودخلت الغرفة المجاورة حيث فلذة كبدي ، قلت لـ عبد الله افتح لي وجهه لاتيقن إن كان هو بالفعل أحمد ضرغام أم لا ..

كان ثمة بصيص أمل بدواخلي مؤداه أن ثمة خطأ ما ربما وقع ، وانني وعندما انظر لوجهه ساقول لهم إنه ليس أحمد ، هذا شخص آخر ، هذا ليس إبني ..

غير ان كل تلك الآمال انهارت بغتة ..

فهذا إبني الذي أعرفه ، نعم هذا إبني الذي كان معي نعالج معي مياه غيث السماء صبحا ..

نعم .. نعم هذا أحمد ضرغام ، وأنه بالفعل قد مات ..

كان مغمض العينين مبتسما ، تمعنت بوجهه وقلت ربما سيفتحهما ويقول لي ابي لقد كنت امزح ..

غير انه لم يفعل ..

لم يحرك ساكنا ..

لم ينبس ببنت شفة ..

كان جادا في موته ..

عندها فقط ايقنت أن أحمد ضرغام قد مات ، وأنه قد أوفى بما قاله لنا في صفحته بالفيس بتاريخ الأول من يوليو 2021 ، عندما أبلغنا إنه راحل فلم يصدقه أحد ..

اليوم إذن يوم التصديق ويوم الحق والحقيقة ، وأنه لاحيلة لي أصلا غير الإقرار بهذا الواقع الأليم ، ومن ثم تجرع هذا الكأس المر ، شئت أم أبيت ..

قدماي خارتا مجددا ، اسرعوا بإحضار كرسي لي ، جلست عليه والدموع ترفض أن تجف والنحيب يرفض التوقف ، لقد فشلت كل محاولاتي للتماسك ..

بعد ساعة أعلن جاري عبد الله عن إنتهاء إجراءات غسل الجثمان ، وأن ساعة الرحيل الأبدي قد أزفت ، ضج البيت الممتلئ عن آخره بالصراخ ، جاء إناس ونسوه رأيناهم للمرة الأولى معزين ، قالوا إنهم أصدقاء أحمد ..

ـ يا ألهي كان لأحمد أصدقاء  كثر صغار وكبار ، نساء ورجال ، كلهم جاءوا لوداع هذه الشهيد ، كلهم كانوا يتحدثون عن مآثره ومحامده ..

أحمد لم يخبرني بأنه علاقاته الشخصية ممتدة على طول الحي وعرضه ، وإنه كان عنوانا للأدب وللسيرة الحسنة ، أقرانه جاءوا بالعشرات بل بالمئات ، لا أدري متى وكيف إكتسب إبني هذه الصداقات ، كلهم يعرفون أحمد ، كلهم يشهدون له بالصلاح ، أحمد لايتحدث عما يفعله من محامد في ظاهر الغيب .. لقد فاجأني هذا الإبن الأعجوبة بتلك السيرة العطرة ..

ـ كان أحمد يحب العمل والكد والإجتهاد ، كان يحب أن يأكل من عمل يده تماما كنبي الله داؤد ، رغم عن إنه لايزال في الصف الأول ثانوي غير إنه كان يحب العمل في كل شيء شريف ، عمل على كارو لنقل مواد البناء من المغلق المجاور لزبائن ذلك المغلق ، يوم يكسب أجرا ، يأت بما أكتسبه للبيت لينفقه فيه ، في يوم من الأيام أعطوه أجره مساء ، إشترى لي صندوق من البسكويت الفاخر ، حمله لي وقال يا أبي تقبل مني هذه الهدية ..

كنت لا أزال في الأيام الأولى من العملية الجراحية ..

قلت له :

ـ أحمد هذه تحسب لك ..

ضحك ومضى ولم يقل شيئا ..

ذات يوم عاد للمنزل عصرا متعبا والغبار عالق برأسه وملابسه بعد عمل شاق ، أدخل يده بجيبه وسلمني أجرة ذلك العمل ..

قلت له ماهذا يا أحمد ؟..

قال :

ـ خليها معك ولم يلتفت إليّ بعد ذلك ..

هو لايحب أن يطلب مني شراء أي شيء حتى لو كان ينقصه ، كان يحب أن يشتري حاجياته الشخصية من عمل يده ، كان يحيرني هذا الشهيد ، لا أدري من أين أتي بكل هذا العفاف ..

خرج الجثمان من البيت مودعا بما يستحق من ثناء ، وضعوه على سيارة بكب دبل كابين ، وأحاط بالجثمان الطاهر أصدقاؤه ، أكثر من عشرين فردا كانوا يحيطون بجثمانه ، وكنت أنا في المقعد خلف السائق وبجانبي إبني الأكبر محمد ضرغام وبعض الشباب ، ورغم أن الشارع كان ممتلئا عن آخره بمياه الأمطار وكل السيارات تعجز عن المرور ، إلا أن السيارة الحاملة لجثمان أحمد مرت على المياه والطين والأوحال كأنها تسير على شارع أسفلت ، كنت أتوقع وبحكم الحمل الثقيل لها أن تتوقف ، مرت كالبرق ، كأن هناك من يدفعها ، لا أردي هل نزلت الملائكة وقتها لتدفع هذه السيارة ، قناعتي تقول أن ذلك قد حدث فعلا ..

وصلنا لمقابر حمد النتيفة القريب من جبل طورية وصلينا عليه ، ثم وري أحمد الثرى ، كان قلبي يتمزق وأنا أراهم يحسون التراب عليه ، أكملوا الدفن ، عدت للقبر ، وجثيت على ركبتي ووضعت آخر قبلاتي على القبر الصغير ، وقلت له مودعا :

طبت حيا وميتا يا أحمد ضرغام .. طبت حيا وميتا يا أحمد ضرغام ، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها ولن تموت بعدها أبدا ..

وأن أبتعد كنت ألوح بيدي للقبر مودعا وأقول مع السلامة حبيبي وإلى لقاء بحول الله عند سدرة المنتهي ، تلك التي عندها جنة المأوى ..

أحمد وفي يوم رحيله ، وبعد أن عالجنا سويا بعد صلاة الصبح مياه الغيث بالمنزل ، كان من المفترض أن يذهب معي وهجرس ومحمد لمكتبي بالقيعة لتنظيفه من الغبار هكذا أتفقنا ، فمكتبي مغلق منذ شهر نتيجة العملية الجراحية التي أجريتها .

غير أن هطول الغيث أجل ذلك الإجراء ، عندها خرج أحمد ولم يلحظ ذلك أحد ..

هجرس ذهب للمخبز وأحضر الخبر ، والدته أعدت الفطور ، إنتظرته فلم يأت ، هاتفه كان بالمنزل لم يحمله معه لذلك صعب العثور عليه .

بعد أن عدنا من الدفن جاء أولئك الصبية الذين ذهب معهم لخور القيعة صبحا ، قالوا لي ماذا ستفعل معنا ولنا ؟..

قلت لهم كيف ذهب وذهبتم لخور القيعة ؟..

قال أحدهم ، أحمد أصلا جاء للمتجر القريب بمربع 50 لشراء رصيد لهاتفه ، وهناك إقترح أحدنا أن نذهب لخور القيعة للسباحة ..

قلت لهم ولماذا أصطحبتم أحمد معكم وهو لايعرف السباحة أصلا ؟..

ـ  لقد أصر على الذهاب

ـ لماذا لم تتصلوا بي وتخبروني بقراره حتى أتحمل أنا مسؤولية ذهابه معكم ، صمتوا ..

خور القيعة يبعد حوالي الساعتين مشيا على الأقدام من حيث بيتنا ، قطعوا تلك المسافة لأن أحمد كان على موعد مع الموت هناك ، تلك هي القناعة الإيمانية التي يجب الركون إليها في مطلق الأحوال ..

ـ أحمد ضرغام كان أصلا لايعرف معنى الخوف أبدا ، كان على إستعداد لقبول أي تحدي ..

لقد أخبرني قبل أسبوع من رحيله بأن أصدقاء له طلبوا منه النزول لبئر بعمق 42 مترا للإتيان بكرة قدم لهم سقطت فيها ، لم يستطع أي منهم قبول هذا التحدي خوفا ..

طلبوا من أحمد النزول ، فنزل مربوطا بالحبال ، وضع الكرة داخل قميصه فرفعوه ..

أخبرني عندما عاد بما فعل ..

وقتها خفت عليه بالفعل ، فهذا الأبن الشجاع من الممكن أن يستغله الجبناء ..

قلت له :

ـ أي بني لتقم صاحبة الحاجة لحاجتها ..

ـ  وما معنى ذلك يا أبي ؟..

ـ أصحاب البئر هم الذين ينبغي عليهم النزول لا أنت يا أحمد ..

شجاعتك غير متوفرة في أي من أقرانك أنا أعلم ذلك ، لذلك أخاف عليك منها يا بني ..

كان ذلك أرهاصا إليما لما سيحدث بعدئدٍ ..

خور القيعة وهو وادي يبلغ عرضه حوالي الـ خمسة أمتار لاغير ، غير أنه وفي الخريف يمتلئ بالمياه ، مياه جارفة عنيفة تأت من كردفان غربا متوجهة للنيل الأبيض المجاور شرقا ..

أحمد إستل سيف شجاعته ذلك البتار والذي يخيفني كما أسلفت ، رأي الأطفال يعبرون سباحة من شاطئ الخور للشاطئ الآخر ، خلع بنطاله ونزل للخور ليحقق ذات الإنجاز الذي حققه يوم نزل لتلك البئر قبل أيام ، غير أن الخور لم يكن البئر ، شتان مابين هذا وذاك ، بيد أن إبني هذا الليث الصغير لايبالي ، أنا أعلم إنه لايبالي ، ثم إنه وأصلا لايخاف الموت ، ولا يجزع من ظلمات القبور ..

كان يعلم إنه راحل ، وكان يضحك ويبتسم ، ويغني ويرقص كما فعل في حفل زواج أخته وداد يوم الثلاثين من يوليو أي قبل أسبوع من رحيله الذي كان يعلمه هو وحده ، ويفترض إننا أيضا نعلم ، لقد أخلى مسؤوليته إزاء إبلاغ الآخرين برحيله لذلك كان في حل عن أي لوم يأت بعد ذلك ..

عندما جاء الأصدقاء معزين من الجموعية بالريف الجنوبي ، سألتهم وأنا معلق مابين السماء والأرض حزنا وأسى ، كيف هو خور القيعة وأنتم مررتم عليه ، قالوا مكتظ بالأطفال ..

أطفال يموتون في خور القيعة كل يوم ، وبدون أن تحرك أي جهة رسمية ساكنا ، لقد علمت أن هناك ثلاثة أطفال قضوا غرقا في ذات يوم إستشهاد إبني أحمد ، ولا يزال الشهداء يتساقطون كأوراق  الخريف في خور القيعة ..

قلت للزملاء هل عجزت الشرطة في نصب نقطة إرتكاز بضفتي الخور منعا لهؤلاء الأطفال من الدخول لهذه المحرقة ، قالوا ذلك ليس بالأمر المستحيل ، وحتى كتابة هذه التراجيديا أخوتي ما برح أطفال الريف الجنوبي بأمدرمان يموتون بخور القيعة ، واقع مستمر منذ سنوات خلت ولايزال مسلسل الموت مستمرا ، إلى متى ، لا أدري !!..