الأربعاء، 27 يناير 2016

النفط بين النقمة والنعمة



هل إستفاد الناس من النفط ؟ ، وهل كان نعمة أم نقمة ؟ ، وهل ساهم في بناء الإنسان العربي ؟ ، أو جعله مجرد مستهلك ؟، المنطق يقول إن الحكومات ستدفع الآن ثمن إخطائها لأنها لم تؤهل الإنسان التأهيل الصحيح ، ولم تستعد لهذا اليوم ، مما يطرح عدة أسئلة :
لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه ؟ ، هل يكمن الخلل في العقل أم في الولاء أم في الإخلاص ، أم فيها جميعا ؟..
كلها وجميعها أسئلة حيرى طرحها الزميل والصديق الكاتب والإعلامي العماني / زاهر بن حارث المحروقي في مقاله المنشور بجريدة الرؤية العمانية ليوم الإثنين 25 يناير الجاري ، في الواقع وفي محاولة متواضعة للإجابة هذا الكم الحاسم من الإسئلة وفي ظل الإنهيارالمريع لإسعارالنقط والذي قد يمضي لا قدر له في إتجاه (لا جدوى من إستخراجه) تلك هي ما أسميه بـ (الحالة الصفرية القاتلة) والتي تتساوى فيها تكلفة إستخراج البرميل مع سعره في السوق ، إو إلى (الحالة الماحقة) وهي عندما يقل سعر البيع عن سعر الإستخراج إن حدث هذا كيف يكون هو الحال ؟.. وكيف تستطيع الدول المعتمدة كليا علي النفط كسلعة وحيدة في تسيير أمورها والحفاظ علي زخم إقتصادياتها ؟..
بالقطع هي صورة قاتمة لزلزال مدمر نسأل الله أن لا يغشانا إذ لا نقوى عليه ولا قدرة لنا على إحتمال نتائجه الوخيمة ، غير إن هذا الدعاء الصادق لرب العزة يتعين معه أن نسأل أنفسنا لماذا وصل بنا الحال إلى هذا الحال في إلتقاء كريم من أسئلة المحروقي ، في الواقع نعترف بأن العرب لم يستطيعوا فعلا توظيف عائدات البترول الضخمة منذ مطلع سبعينات القرن الماضي في إقامة عمد وأركان منظومات صناعية وتكنولوجية ضخمة في كافة المجالات ولا إستثمارات زراعية صناعية ذات عوائد دولارية مليارية أو مليونية على أقل تقدير  فيما خلف البحار أو في الدول العربية ذات الإمكانات الزراعية الهائلة كالسودان مثلا وبإعتبار إن نقص الغذاء عربيا وقوميا وحتى عالميا هو الفاجعة القادمة لا محالة ، وتجربة النمور الأسيوية أصلا ليست ببعيدة فهي على بعد مرمى حجر من الخليج العربي ، التجربة السنغافورية لخصها مؤسس سنغافورة لي كيوان يو عندما قال :
إلي أي درجة كانت سنغافورة الستينيات قاسية ، فقر ومرض وفساد وجريمة ، بيعت مناصب الدولة لمن يدفع ، خطف الشرطيون الصغيرات لدعارة الأجانب ، وقاسموا اللصوص والمومسات فيما يجمعون ، إحتكر قادة الدفاع الأراضي والأرز ، وباع القضاة أحكامهم ، قال الجميع : الإصلاح مستحيل ، ولكنني إلتفتت إلى المعلمين ، وكانوا في بؤس وإزدراء ومنحتهم أعلى الأجور ، وقلت لهم : أنا أبني لكم أجهزة الدولة ، وأنتم تبنون لي الإنسان .
هذا ملخص لتجربة حية لأحد النمور الأسيوية ، دولة إنطلقت من الصفر عبر فكرة ومبدأ ولم يكن لها موارد مالية تذكر كموارد نفط الخليج ، إذن فدول النفط كانت أفضل حالا إذ المردود المالي كان موجودا وفاعلا ومتدفقا ، وإستفادت منه البنوك الأميركية والأوربية وحدها ، وعبر إستخلاص ما قاله لي كيوان يمكننا الوصول إلى بواطن الخطأ ببساطة وبدون المزيد من الشرح أو الإسهاب .
تأثيرات الثورة النفطية العربية إذ جاز التعبير لم تلق بظلالها السالبة على دول الخليج فقط بل أمتد تأثيرها لكافة الدول العربية المصدرة للعمالة للخليج فكانت في موازنات تلك الدول بند هام يسمى (تحويلات المغتربين) وكنت أنا شخصيا جزء من هذا المنظومة  التي إندرج تحت لواءها ملايين السودانيين منذ السبعينيات ، هذا البند الهام عولت عليه حكومات العديد من الدول العربية والسودان الوطن أحد تلك الدول حكما ، فعندما تنخفض التحويلات لأي طارئ بالخليج تعاني الموازنة العامة والعكس صحيح أيضا ، غير إن الأمر المؤسف ونحن في هذا المنعطف هو إن الحكومات لم تضع نصب أعينها إحتمال أن تتوقف تلك التحويلات نهائيا بعودة جحافل المغتربين للوطن ودفعة واحدة ، إن حدث هذا ماهو البديل الإقتصادي والقادر على سد الفجوة ؟.. لم نر دراسة علمية إقتصادية واحدة ركزت على هذا الجانب ، الدعة وحدها فرضت جدلية إن التحويلات ستستمر للأبد ، والأن ربما بدأوا التفكير في هذا الإحتمال أو ربما لم يأخذوا الأمر علي محمل الجد بعد .
ليست الحكومات العربية وحدها من جنح لسراب الدعة حيال قضية الغربة والإغتراب والنفط والبترونل ، بإعتباره أملا ومطلبا ومغنما كما قال المحروقي ، الأفراد والشعوب فعلوا ذلك أيضا ، ففي فترة ما كان (المغترب) هو وحده من يعتمر تاج الوجاهة الأجتماعية الذهبي ، ذلك كان العصر الذي كنا فيه في الخليج ، ورويدا رويدا بدأ معدن هذا التاج في التحول حتى أمسى فضيا ، ثم برونزيا ، ثم نحاسيا ، ثم خشبيا ، هو الأن تاج من ورق في إتساق متناغم من إنخفاض أسعار النفط عالميا ودخول الولايات المتحدة الأميركية للسوق النفطي كمصدر للمرة الأولى في تاريخها .
نحن هنا في السودان لسنا في معزل عن هذه  القضية الجوهرية بالتأكيد ، فالدولة وفي فترة من الفترات عولت عليه كمصدر أساسي للعملات الصعبة رغم إننا كنا حديثي عهد بهذه النعمة ، تلك هي فترة الإنتعاش الإقتصادي التي لم تدم طويلا ، إذ سرعان ما ذهب نفط الجنوب للجنوب وعدنا للمربع الأول مربع الزراعة الذي عهدناه وخبرناه ونعلم جدواه ومغزاه ، بعدها ما برحت الدولة تبذل جهودا خارقة لتعويض ذلك الفاقد عبر المزيد من الإكتشافات النفطية ولكن المعادلة (الصفرية) التي أشرنا إليها بعاليه ربما تقف حائلا أمام زخم السعي بجد للمزيد من الإكتشافات هذا سيحدث عندما يتساوى سعر البيع مع سعر التكلفة وقد نصل لذلك كما أشرت لا قدر الله ورغم إن السودان يختلف عن دول الخليج في إمكاناته الإضافية كالمعادن والزراعة ، وتجربتنا النفطية القصيرة أفرزت أصلا دروسا مؤداها إن أي ريع إضافي تعديني أو نفطي يجب أن يمضي لتجويد الزراعة ، الذهب الآن يمضي بخطي ثابثة لسد الفجوة إن صدقت النوايا وإكتمل إخلاص الرجال .
ثمة تجربة خليجية ضخمة ماثلة للعيان أزاء النفط وعذابات النفط يتعين دراستها خليجيا وعربيا وقوميا لإستخلاص المواعظ والدروس والعبر منها ومقارنتها من تجارب النمور الآسيوية الناجحة وللخروج بعدها بتوصيات نفطية قومية لنتركها للأجيال القادمة كإرث وحيد بعد أن فشلنا في تأمين أرث لهم من الذهب الخالص ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب
www.facebook.com/dirghama
تويتر : @Dirzid