الجمعة، 8 أبريل 2022

غندور ليس هو المهلل بن ربيعة

غندور ليس هو المهلل بن ربيعة

ضرغام أبوزيد

dirgham@yahoo.com

كان المهلل بن ربيعة أو الزير سالم صاحب ثأر لذلك قالها بوضوح وبغير لبس :

كليب مات مقتولا طعينا فمرني أيها الثأر المعلا 

ومع تحضر بني الإنسان تم إجازة ماقاله بإعتباره جاهليا وبربريا ، فكانت داحس والغبراء وصمة عار في جبين العرب ..

ثم وعندما بعث الله النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه في ذات جزيرة العرب التي أنجبت المهلل ، وعندما دخل الناس في دين الله أفواجا ، وبعد أن دخل المصطفى مكة فاتحا لم يقل كما قال المهلل ، ولم يرتهن للثأر المعلا ليحكم بينه وبين الخصوم القدامي الذين أذاقوه مر العذاب ، بل قال قولته الشهيرة ماذا تروني فاعل بكم ، قالوا أخ كريم أبن أخ كريم ، قال فأذهبوا فأنتم الطلقاء ، نهج جديد سُمي فيما بعد بالعفو عند المقدرة ، وبات هذا النهج المحمدي المضئ اللبنة الأساس والأضخم والأمتن والذي قامت عليه دولة المصطفى بالمدينة المنورة ، فإنطلق العدل والإحسان والسماحة لتضئ أركان الكون الأربعة ، وذلك هو السر في كيفية بناء الدول والأوطان .

 فيما بعد ذلك إستخلص الناس حقيقة أن الأحقاد والثارات والبغضاء والشحناء والكراهية والمقت والتشفي والتشظي عوامل من المستحيل أن تبني دولة ، الدول لاتقوم إلا على أكتاف الرجال الذين يملكون القدرة والشجاعة على الصفح الجميل كالمصطفى ، وعلى تناسي مرارات الماضي .

نعم يا سادتي من سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أدركنا كل ذلك ، وبات أولي العزم من الرجال والقادة وهم (قليل) ممن يملكون هذا العزم الفريد ، والقليل هم أصلا أصحاب الحظوة في القرآن وفيهم قال جل من قائل :

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ .. صدق الله العظيم .

كما قال جل من قائل :

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ .. صدق الله العظيم .

 وعليه نبتهل لله عز وجل أن يجعلنا أبدا من أولئك القليل المرضي عنهم في القرآن .

علي ذلك كنا في الواقع قد أرهفنا السمع لكلمات البروفيسور إبراهيم غندور بعد أطلاق سراحه بريئا من كل التهم المنسوبة إليه ، كنا نرغب أن نسمع ماذا سيقول لنحكم عليه ، لنرى أين نضعه ، هل ياترى مع القليل أم مع الكثير ، فكان الأمر فارقا وفاصلا وحاسما ، أول كلماته كنا قد غردنا مشيدين بها ، فالرجل وعندما كان يتحدث كان صاحب (ثأر) تلك حقيقة ، لكنه لم يقل كما قال المهلل ، مرني أيها الثأر المُعلا ، ولو قالها لألتمسنا له العذر غير إننا لن نصنفه كرجل (دولة) ، كان سيغدو ككل الرجال العاديين الذين يحدثون ضجيجا في الطرقات والساحات ثم يذهبون لحال سبيلهم ، وقد يتركون خلفهم كوارث ونكبات ، وقد تسيل تحت أقدامهم دماء ترتفع حتى الرُكب بل حتى اللجام ، ولنا أسوة كالحة الملامح في رجال مروا على الوطن في تاريخ غير بعيد ، جاءوا في غفلة من الزمن وهم يرفعون ريات المهلل عاليه ، غير أنهم زعموا أنهم رجال دولة ، ذلك امر يستحيل فلن يكونوا كذلك أبدا ، كانوا طلاب ثارات ، فشربوا الدماء بادئ الرأي وقبل أن يخوضوا فيها كما أشرنا ، وعند سنابك خيولهم الجامحة سقطت الدولة ، ثم سقطوا هم كأمر طبيعي ومنطقي وحتمي .

غندور طالب الثأر لم يقل يوم إطلاق سراحة إنه كذلك ، نسي من ظلموه تماما ، فدعا للوحدة والإتفاق والوئام من أجل بناء الوطن ، ثم أشاد بالقضاء النزيه كركن أساس في منظومة بناء الدول ، تلك هي (العدالة) المعنى وليست العدالة التجارة والإغارة ، علما بأن ثمة بون شاسع مابين الإغارة والتجارة ، تماما كالفرق بين الصلوات والصولات .

الذهول أصاب الجميع ، فهذا الرجل المظلوم والملكوم والموجوع لم يتحدث عن سجانيه ، لم يتوعدهم بالثبور وعواقب وعظائم الأمور ، لم يذكرهم بكلمة ، لقد نساهم تماما ، فارتج عليهم في الواقع ، ذلك إنهم كانوا يرتعدون في دواخلهم ، وهم يعلمون بأنهم قد أخذوا الرجل ظلما .

وبم إنه لم يقل فيهم شيئا فقد أمسى بالفعل رجل دولة ونأى بنفسه عن المهلل بن ربيعة طالب الثأر المعلا ، وبات إلى موقف المصطفى أقرب يوم فتح مكه ، عندما دانت له العرب  بالإحسان وبالحب ، كان في إمكانه أن ينصب أعواد المشانق لصناديد قريش جهارا نهارا .

لقد كتبت ذات مرة مقالا بعنوان (كيزان قريش هم أنفسهم صحابة رسول الله) ، أشرت فيه لهذا المعنى الجليل ، وأذكر بأن أحد القراء لم يفهم قصدي ولا المعنى الذي أهمس به فجدف بعيدا عن جوهر الحكاية ، ضحكت في الواقع ، فليس كل الناس قد يذهبون معك لذات الساحة ، هناك من يرى في ساحتك وفي أعلامك الملونة  ملهاة لاتستحق التوقف عندها ، تلك هي الدنيا .

وفي مقالات لي سابقة أيضا ، أذكر بأنني وعند سقوط البشير طالبت قادة الوطن الجدد أن ينسوا الأحقاد ، وأن ينسوا الثارات ، وأن يركزوا جهدهم وفكرهم في كيفية البناء فوق ماتركته الإنقاذ ، سخروا مني ، أسمعوني تلك الكلمة الأثيرة التي أضاعت الوطن ودمرته بل وسحقته انت (كوز) ، كنت أريدهم إتباع نهج الرسول الكريم ، كنت أريدهم السير على هداه  وإذ كنت اعلم أن الثارات لاتبني وطنا ولاتقيم أودا ، وهذا ماحدث ، لقد نسوا الوطن كله أرضا وسماء وأنهارا وجبالا ، نسوا الشعب تماما ، ماكله ومشربه وملبسه ، ومضوا بعيدا وعميقا في تأصيل الثارات وتأكيدها كمنهج حياة وديدن حكام جدد ، لم ينالوا من الحكمة مثال ذرة ، وتلك كانت الطامة الكبرى ، ولان هكذا طريق مغلق في نهايته فقد حدث الأصطدام المدوى مع الجبل العتيد الذي سد الطريق في منتهاه ، فكانت الكارثة التي هزت الوطن من أقصاه لأدناه .

كنت أريدهم أن يقولوا ماقاله غندور يوم إطلاق سراحه ، وما قاله غندور فعله قبلأ الأب الروحي لأفريقيا الزعيم الجنوب أفريقي نيسلون مانديلا ، فدخل التاريخ من أوسع أبوابه يوم رفض أن يعيد الصفعة لجلاديه البيض رغما عن أنه قضى كل شبابه في سجنونهم ، لقد وضع الرجل جنوب أفريقيا وطنه في حدقات عيونه ، فأنشا لجنة الحقيقة والمصالحة التي أفضت لتفريغ سموم نظام التفرقة العنصرية البغيض في مزبلة التاريخ ، ماحدث أن جنوب افريقيا هي الدولة الأولى في افريقيا الآن ، مانديلا أستلهم سيرة المصطفى في الواقع ، وغندور فعل الشئ نفسه ، لذلك ولكل ذلك فقد أمسى الرجل الوحيد العاقل الآن في الساحة وقد علاها الغبار والعثار والدخان ، لذلك نراه مؤهلا لقيادة البلاد في المرحلة القادمة ، بالقطع إنه وبهذه السمات والصفات والمحامد والخصال سيفوز بمنصب الرئيس بحول الله في الانتخابات القادمة .

والرجل أصلا عالم وخطيب مفوه ، ويملك لغة أنكليزية رفيعة ، شرفنا بها عندما كان وزيرا للخارجية وليست كلغة من أتى بعده في ذات الوزارة الذين فضحونا لغويا ، كما أن الوطن لن ينسى دفاعه عنه دفاع الأبطال في إطار المؤامرة الدولية الأميركية الخاصة بالمدمرة كول ، والتي دفع المواطن المسكين من قوت عياله مبلغ 350 مليون دولار كتعويضات لأسر الضحايا ، والوطن برئ من الجريمة أصلا براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ، كما إنه أي الوطن كان بريئا من تهمة الإرهاب التي ألصقها به حفدة المهلل بن ربيعة ..