الجمعة، 12 فبراير 2021

ما زرعناه في مسقط كان زيتونا ونخلا

 


 ضرغام أبوزيد

صحفي وكاتب سوداني عماني

00249121338306

dirgham@yahoo.com

 

رسالة هائلة المعاني عميقة الأغوار تلقيتها عبر الواتساب من المواطن العُماني / أحمد بن ناصر البطاشي ، توقفت عندها مليا ، إستنطقت حروفها حرفا من بعد حرف ، ومع كل حرف وكلمة وفقرة تتسربل الذكريات من خلف الحُجب كخيط دخان ، يعلو ثم يعلو ثم يغيب وسط الغيوم والسحاب .

رسالة البطاشي أعادتني إلى إكثر من 20 عاما خلت ، إلى مسقط العُمانية حيث كنا هناك نصنع الأحداث ، ونغلف الزمان وهو يعدو بأغطية اليقين ، وإذ نحن نهمس في أذنية بأننا عائدون بالوجدان يوما لنجتر على شواطئ مطرح ذكرياتنا التي لاتموت أبدا ، البطاشي قال في رسالته الحدث :  

 

أستادي العظيم ضرغام  

لكم مني كل التحية والتقدير

أنا أحمد بن ناصر البطاشي صديقك على الفيسبوك ، إلتقيتك مرة أو مرتين في جريدة الوطن في منتصف التسعينيات ، وقد علمتني شيء لا إنساه ..

 هذا الشئ عمل لي فارق في حياتي العملية ووجدت فيه ضالتي وتميزي ..

ما إن تسالني ماهو هذا الشئ حينها راح أخبرك ..

هكذا تركني البطاشي أهيم على وجهي في واحة الذكريات ثم مضى وأختفى في شعاب الواتساب ، رحت أسال نفسي ماهو هذا الشئ الذي فعلته للبطاشي قبل عقدين من الزمان ، حاولت ثم فشلت ، كتبت إليه بأنني قد فشلت في معرفة هذا الشئ الذي حول مجرى حياتك  كما تقول ، فنحن لا نتوقف لا طويلا ولا قصيرا أمام ما نفعله ، لطالما كتبنا وقلنا ملايين الكلمات وملايين المقالات على مدى عقدين ، كلها وجميعها الآن في ذمة التاريخ الصحفي العُماني ليفعل بها مايشاء ، فمقالاتي التي إثارث في مسقط ضجيجا وخلفت تصفيقا ، وإنتزعت الأهات من صدور الرجال والنساء معا ، هي عندي الآن تنام قريرة العين في كمبيوتري الشخصي ، وسأعيدها لمسقط ذات يوم على هيئة سلاسل من كتب تستحق أن تبقى في السلطنة وإلى الأبد ، فهي ليست لي ولكنها ملك خالص للأخوان والأحباء في السلطنة العزيزة .

هي جزء من تاريخ مهم من مسيرة النهضة العُمانية الحديثة ، لطالما كتبت إفتتاحيات الصفحة الأولى بجريدة الوطن ، ولطالما كتبت عن النهضة العُمانية واشبعنا مسيرة التنمية تحليلا وتميحصا وتوعية وإرشادا على هدى قائد النهضة عليه رحمة الله .

وبما أن البطاشي تركني هكذا وسط جيوش الحيرة فلم أستطع أن إستبين أي تلك المواقف والمشاهد التي تركت لديه ذلك الشئ الذي لايُنسى ، لقد فشلت في نهاية المطاف في الوصول إليه وما كان لي إلا أن أنتظر رده على أحر من الجمر ..

 وجاء الرد

قال البطاشي في رده :

 

عندما زرتك في الجريدة شفتك تعشق هذا البرنامج ، وإرسل لي صورته إنه إذن فوتوشوب 4.0 هو الآن يُعد نسخة قديمة بالطبع فقد توالت إصدارات فوتوشوب ، ومضي البطاشي قائلا :

أتذكر وصفك لهذا البرنامج بالخطير ، بعد ذلك إقتنيته وتعلمته ، وإنطلقت منه إلى عالم الجرافيك والموشن جرافيك ..

حاليا أنا مخرج وثائقي ، وضابط مدني بوزارة الدفاع العُمانية ..

بالغ شكري وتقديري لك ، وذلك من منطلق من علمني حرفا صرت له مخلصا ..

لقد أعادني البطاشئ إلى ذلك الزمان ، وتلك قصة تستحق أن أرويها لكم ، فحكايتي مع برنامج فوتوشوب طويلة وشيقة أيضا ، وقد إستفاد منها البطاشي بنحو أراده الله ، وهاهو يحتفظ لنا بذلك الوفاء الغريب والعجيب في زمن قل فيه الوفاء بل إندثر ، لكنني لن أندهش ولن إستغرب إذ البطاشي هكذا بسبب واحد وبسيط هو إنه (عُماني) الجنسية ، وهؤلاء القوم هم أهل الوفاء والأدب والذوق الرفيع في هذا الزمان الأغبر سيئ الصيت غير مليح القسمات والوجنات .

في ذلك الوقت ياسادتي وهو منتصف التسعينيات كما ذكر البطاشي ، كنت قد أطلقت موقع جريدة الوطن العُمانية :

www.alwatan.com  كأول موقع لصحيفة عُمانية على الشبكة العنكبوتية ، كان عملا خرافيا وصعبا وقاسيا لجهة أن التكنولوجيا في ذلك الوقت لم تهتد بعد إلى الوعاء المناسب لإستعراض اللغة العربية ، فالمتصفحات المتوفرة في ذلك الوقت وهما اكسبلورر التابع لمايكروسوفت ، ونفكيتور المنافس له كانا يستعرضان باللغة الإنكليزية فقط ، أما العربية فكان من الصعب نقلها للشبكة العنكبوتية .

صحيح أن نيفكيتور قدم فيما بعد نسخة (سندباد) بإعتبارها داعمة للعربية إلا أن سندباد التابع لشركة صخر المصرية عليها رحمة الله كما أعتقد كانت مترعة بالثقوب ، وكان إيداع اللغة العربية للشبكة العنكبوتية هو همنا الأول والضنى والعذاب الذي عايشته وأنا أنقب بحثا عن الطريقة المثلى لنقل اللغة العربية للأنترنيت .

في ذلك الوقت استعنت بالعبقري العُماني سعيد بن ناصر الراشدي ليقدم لنا جهده وقد كان له التحية والتجلة أين كان بمسقط .

هنا وجدنا ضالتنا في فوتوشوب ، وفي تلك الفترة زارني البطاشي وقلت له ماقلت ، والسؤال كيف تسني لي وصف فوتوشوب بذلك الوصف الساحر والذي جعل البطاشي يعشقه ثم يمتهنه ثم يغدو وظيفته بوزارة الدفاع العُمانية ؟.

في الواقع كان علينا أن نحول الكلام العربي إلى صورة على هيئة GIF والمعروف أن هذه الهيئة أخف وزنا من هيئة أو صيغة JPG الشهيرة ، وبذلك كان فوتوشوف حاضرا لينجز لنا هذا العمل المرهق والمرير .

طوال الليل وحتى يؤذن المؤذن لصلاة الصبح كنا نحول أخبار ومواد الجريدة إلى نمط صورة GIF ، ثم أقوم ببثها مع صلاة الصبح لقراء الوطن فيما خلف البحار ، وبذلك استطعنا تقديم اللغة العربية لقراء الوطن رغما عن أنف المستعرضات الإنكليزية .

وفي ذلك الوقت توثقت علاقتي من الطلاب العُمانيين في أوروبا وأميركا واسيا وفي كل الدول غير الناطقة بالعربية ، ومن نتاج ذلك الصديق العزيز / عبد الله بن بدر بن سعود البوسعيدي الذي كان يدرس الشبكات بأميركا ، وقد زارني بالجريدة بعد تخرجه وتلك قصة أخرى أمتدت حتى زارني يوما هنا في الخرطوم .

إذن بفضل فوتوشوب إستطعنا كسر حوائط المستحيل وقدمنا اللغة العربية للعالم كأول صحيفة عُمانية بل وربما نكون الرواد عربيا وقوميا في تحقيق هذا الإنجاز .

كنت أحرر صفحة خاصة لبريد قراء الوطن الإلكترونية فيما خلف البحار ، كنت أتلقى عميق الشكر وكل التقدير من العُمانيين والطلاب بالخارج إذ إستطعت ربطهم بالوطن بنحو مدهش ، تلك الصفحة وجدت أصداء طيبة ونجاحا منقطع النظير ، وكان من نتاج كل ذلك رسالة أحمد البطاشي التي أزاحت الغبار عن تلك الذكريات البعيدة التي أحكيها لكم الآن .

لأحمد البطاشي خبير الجرافيك بوزارة الدفاع العُمانية كل شكري وعميق تقديري وإمتناني إذ لم أندهش كما أخبرتكم من هذه اللفتة الرهيبة حسنا ، فالبطاشي عُماني الجنسية تلك هي الحكاية ببساطة يا سادتي ..