الاثنين، 20 يونيو 2016

أهوال بيت البكاء الرمضاني



تركيا الإسلامية ووريثة الدولة العثمانية التي أدبت وأخضعت أوروبا الصليبية ذات يوم مضى ، إبتدعت نظاما تربويا إسلاميا رمضانيا رائعا الهدف منه تعليم وتعويد وتلقين الأطفال مبادئ الصيام منذ نعومة أظفارهم وأسموه (صيام العصافير) ، وتم التأكيد علي ذلك إعلاميا من خلال توثيق إفطارات الأطفال والتي تنتهي في الواحدة ظهرا تقريبا وهكذا بالتدريج ، النظرية المؤكدة تقول بأن الطفل وإن لم يتعود على الصيام لن يستطع أن يفعل ذلك عندما يصل السن التي يضحي فيها الصيام واجبا وفرضا ، وهذا يعني إن هناك مسئولية جسيمة تقع على البيت وعلى أولياء الأمور بهذا الشأن .
لقد وجدت نفسي وجها لوجه وهذا أمر أراده الله في وضع يمكنني من رصد هذا الإختلال المشين إزاء إنتهاك ركن هام من أركان الإسلام الخمسة وهو (صوم رمضان) ، فعلى بعد مرمى حجر من مكتبي أقيم سرادق بيت بكاء رمضاني ، وهذا مصطلح رمضاني جديد أيضا إذ لم أعهده من قبل ، بيد إنه تسلل هكذا خلسة إلى إدبيات المعاصي الرمضانية وبات معروفا في أروقة المجتمع ، فطبيعي جدا أن يسألك شاب مفتول العضلات عريض المنكبين ، جهرا لا همسا (هل يوجد بيت بكاء هنا ؟..) فلك إن تجيب بنعم مع وصف مكانه أو أن تجيب بـ لا ثم تستغفر الله في دواخلك ، ومن غير اللائق أن تسأل مثلا وماهو بيت البكاء هذا أو أن تقول ومن المتوفى ، هذا إن حدث فإلاجابة ستصنف بـ (الغبية أوالغير لائقة) .
ذلك يعني أن مصطلح بيت البكاء أو بالدارجة السودانية (بيت البكا) ، وبيت البكاء الغير رمضاني كما هو معروف في كل بلاد المسلمين هو المكان الذي تتلقى فيه الأسرة العزاء في عزيز لديهم إنتقل للرفيق الأعلي ، أمابيت البكاء الرمضاني الجديد فهو ذلك السرادق أو المكان والمغطى جيدا من الأعين وله باب خفي يتطلب الإنحناء للدخول إليه ، وبداخله يحدث العجب العجاب ، الفكرة من هذا الشئ هو إتاحة الفرصة لغير المسلمين والمرضى لتناول وجباتهم الغذائية ، ويتم إقامته بتصديق رسمي ومعتمد من السلطات السودانية المختصة هنا في العاصمة الخرطوم .
 الفكرة قد تبدو مقبولة ومنطقية غير إن ما رصدته عينايّ حقا وفعلا هو أن أهداف ومرامي بيت البكاء قد تم تحريفها والعبث بها بنحو فاضح وواضح ، فكما قلت لكم إنه أقيم على مرمى حجر من مكتبي وباب زجاج مكتبي زجاجي من النوع الذي أرى مايحدث في الخارج ولا يستطيع الطرف الآخر رؤيتي .
طيلة النهار وأن أحدق في المرضى وغير المسلمين إفتراضا وزعما ، والمسليمن واقعا وتسليما الذين يرتادون بيت البكاء لتناول طعامهم وشرابهم وتدخين سجائرهم وسف (صعودهم) ، هم وجلهم شباب وفتيان في عمر الزهور وفي عمر العطاء والجهاد وتحمل المسئولية ، أعرف الكثير منهم ، أراهم يتلفتون يمنة ويسره ثم يندسون إنحناءا إجباريا عبر باب الخيمة ، وثم يخرجون بعد ذلك وهم يمسحون خياشيمهم ويتضاحكون كناية عن إنهم قد تجرعوا من كأسات الرضا والحبور ما يكفي داخل بيت البكاء السعيد .
النسبة مخيفة لرواد هذه البيوت ، والمؤشر مؤسف ، والمعدلات صادمة ومحزنة ، بت أسأل نفسي ، أليس تاريخنا الإسلامي الحافل مترع بالأمثلة والمواقف على جهاد ضروس من أجل أعلاء كلمة الله في الأرض تم ووقع في رمضان وفي نهارات وصحارى يجف فيها حلق العندليب ؟.. لنا أن نعدد وللذكرى فقط بدر الكبرى ، فتح مكة ، القادسية ، فتح الأندلس ، الزلاقة ، عين جالوت ، حطين ، ثم نقف ونتوقف أمام ملحمة المتنبئ العظيم وهو يؤرح لفتح عمورية الرمضانية الخالدة والتي قال فيها والتاريخ مابرح يصفق بيديه العاريتين :

السيف أصدق أنباء من الكتب ـــ في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف ـــ في متونهن جلاء الشك والريب

هذه العمورية الخالدة والتي وقعت في العام 223 هجرية حدثت يوم رمض الجندب في رمضان ، فهل أولئك الأشاوس والذين قاتلوا وقتلوا عبر هذا التاريخ المنير يشبهون شبابنا الذين فشلوا في الإمتثال لركن أساس من أركان الإسلام وهو الصيام ، هل هناك وجه شبه ؟ ، هل هناك نظير ؟.. هل أولئك كانوا رجالا ورواد بيتوت البكاء في عصرنا هم أيضا رجال ؟..
بالقطع البون شاسع ، والمؤشرات مؤسفة ، والدلالات فادحة العواقب ، والمستقبل عبر هذا المنظور شنيعة ملامحة ، ذلك إن المعدلات التي رصدتها شخصيا تقول وبلسان عربي مبين بأننا وربما في يوم من الأيام وفي سنة من السنين لن نجد هنا من يصوم رمضان ، سنحتفي به نعم ، وسنعد المسلسلات والفوازير والمسابقات الرمضانية من إذاعية لتلفزيونية وبوقت كاف نعم ، وسنشاهد رامز وهو يبتدع مواقف جديدة لا معنى لها ، وسنحض الناس على إن في السحور بركة ، وعلى إن في قيام الليل وتلاوة القرآن الخير كل الخير ، ومع كل هذا وفوق هذا لن نجد هناك من يصوم ، بيوت البكاء ستزداد عددا وروادا ، كما حدث ويحدث فعلا .
لا تندهشوا من هذا المؤسف الذي نقول ، لنا أن نلتفت لما يحدث داخل بيوتنا وداخل مجتمعاتنا لنسأل هل هناك منظومة تربوية فاعلة على نهج منظومة تركيا (صيام العصافير) تعمل على تلقين الناشئة مبادئ وأبجديات الصيام ؟.. الأطفال لا يجدون من يتابعهم ويحضهم عليه لأن الكبار أنفسهم مفطرون ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب سوداني عُماني
مشرف جروب قدامى المحاربين الإعلاميين
dirgham@yahoo.com