الجمعة، 30 نوفمبر 2012

عندما جاء الطيب صالح للعاصمة العمانية مسقط ....


زيارته لمسقط عام 1988
قال أتذكر ؟ : قلت : لن  أن انسي ، سيما وان المُستفسر عنه هو الأديب السوداني الضخم الطيب صالح الذي انتقل إلى جوار ربه قانعا ومبتهجا وسعيدا بما قدم لوطنه فيما خلف البحار ، وأمست للرواية السودانية والكاتب السوداني بفضله وجهده مكانة سامقة بين الكبار في دنيا الثقافة والادب وإذا كنا قد التقينا الأديب الكبير عبر لقاءات عديدة خاصة وعامة شهدتها المنتديات الثقافية بالعاصمة العُمانية مسقط ، فان صوت الطيب صالح المميز لا يزال يرن في طبلة  الأذن ، ولا تزال ضحكاته وابتساماته ماثلة  أمام العين ، كأنه يتحدث لا يزال من خلف الحُجب مؤكدا بأنه سيبقى فينا ومعنا والى الأبد ومبشرا بمستقبل لنا زاهر في عقد الأدب الفريد ، ثم ها نحن نجتر لهيب الذكريات الحارة المتقدة كالجمر ، لنقدمها كما هي لعشاق الطيب صالح الانسان قبل الأديب ..

المكان : قاعة كبار الزوار بمطار السيب الدولي بالعاصمة العُمانية مسقط .
الزمان : منتصف فبراير 1993 .
المُنتظر وصوله : الأديب السوداني الكبير الطيب صالح بدعوة من النادي الثقافي بسلطنة عُمان لالقاء محاضرة به .
الطيب صالح بالنادي الثقافي ـ وبجانبه الأستاذ / هلال العامري
هبطت الطائرة بسلام ، تقدم الوفد العُماني الثقافي رفيع المستوى لسلم الطائرة لاستقبال الأديب الكبير ، جيء بالسلم المتحرك ، والصق  بباب الطائرة ، ما هي إلا لحظات حتى هل واطل الأديب الكبير ، القي نظرة موضوعية للأسفل فرأى جموعا غفيرة وابتسامات عريضة ، وأسارير متهللة ، كان ذلك عنوانا عريضا أوليا يتحدث عن مستوى الحفاوة التي سيجدها الرجل في هذه العاصمة العربية العريقة .
وحتى إذا ما ترجل هبوطا استقبلناه بالأحضان ، كان استقبالا حارا وعفويا ونابعا من سويداء قلوب محبة له ولشخصه ولتواضعه ولأدبه ولأدبه الجم ، كان تاريخ الزيارة معلنا منذ أكثر من شهر ، وعبر عناوين عريضة كتبت مخاطبا الشارع الثقافي العُماني بجريدة ( الوطن ) العُمانية حيث أشرف على الملحق الثقافي بها بموعد الزيارة وبرنامجها المعد بعناية ، فكان  الكل في انتظار الحدث الكبير .

كان مطار السيب الدولي بمسقط مسرحا لمشاهد مؤثرة بالفعل احتفاءا بمقدم ذائع الصيت الطيب صالح ، كان استقبالا يوازي استقبال رؤساء الدول ، ذلك أن الطيب صالح كان بالفعل رئيس دولة موسم الهجرة للشمال مترامية الأطراف بجذرها السياحية الشهيرة ( بندر شاه ، ضو البيت ، مريود ، دومة ود حامد ، عرس الزين ) وماهو صحيح إن هذه الدولة بلغت شأوا عظيما تحت زعامة قائدها الملهم ، وإنها أمست قطبا أحاديا قادرا على التأثير لا التأثر وأنها على مستوى كوكب الأرض لها مريدين وأتباع وحفظة ، غير إنها لم تكن يوما امبريالية ولا معتدية ولا بربرية ، كانت مسالمة وطاهرة اليد واللسان ، وكانت أبدا تنشد التواصل والتحاور والتفاكر بين بني الإنسان في كل قارات الدنيا ، هكذا أرادها زعيمها ولذلك كان استقبال مسقط له تاريخيا .

إلتقيته بمنزل د. حسن أبشر بمدينة قابوس ـ بمسقط
ترجل الطيب صالح من سلم الطائرة يحيط به مستقبليه وصولا لقاعة كبار الزوار بالمطار السلطاني الخاص ، وكانت جلسة رائعة في استهلال الزيارة التاريخية ، جلسنا وجلس اديبنا الكبير على المقاعد الوثيرة وجيء بالقهوة العربية ثم بالحلوى العًمانية الفاخرة المزدانة عبقا بماء الورد والزعفران ، بينما كان البخور العُماني الظفاري بشذاه الفواح يضفي على القاعة إحساسا بالبهجة والمسرة .

وبدأ الطيب صالح ومن هناك في نثر الدرر على الحضور وعلى خلفية ظله الخفيف الشفيف المعروف عنه ، وما بين جملة وأخرى كانت القاعة تضج بالضحك ، ثم تبودلت الكلمات الترحيبية المعبرة عن حب وتقدير الشعب العُماني للأديب الكبير ، وعن  ترحيب حكومة جلالة السلطان قابوس بن سعيد بشخصه الكريم في وطنه الثاني سلطنة عُمان .

ما أثار دهشتي حقا وقتئذٍ أن  الطيب صالح وعندما طلبنا منه جواز سفره ليتسنى تكملة إجراءات دخوله أبرز على الفور جوازا سودانيا قحا بلونه الأخضر المعهود ، تماما كجوازات سفرنا ، ذلك انه كان من الممكن أن يبرز جوازا بريطانيا باعتباره قد أمضى كل شبابه هناك ، ثم هو متزوج من اسكتلندية وله منها ثلاث بنات كما أخبرني بنفسه ، غير انه لم يشأ أن يفعل ، كان رحمه الله معتدا بسودانيته حتى العظم بل حتى النخاع ، هو أساسا وبدءا يسير بطريقته الخاصة على ذات الدرب الذي سار فيه داهيته الشهيرة مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال ، إذ هو بعد أن صال وجال في بلاد الصقيع والبرد أعلنها بوضوح :

زيارته لمسقط عام 1993
نعم يا سادتي إنني جئتكم غازيا في عقر داركم ، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ ، انأ لست عطيلا ، عطيل كان أكذوبة .

واتساقا مع مبدأ عدالة العين بالعين ، والسن بالسن ، يقول مستر مصطفى سعيد : حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا قال له : لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟.. الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئا ، فليكن ذلك شأني معهم .

ثم عاد لقريته الصغيرة النائية عند منحنى النيل شمال السودان ليموت غرقا أو انتحارا الله ورسوله أعلم . وهاهو أديبنا الراحل وبعد أن صال وجال في بلاد الانكليز وبعد أن خط اسمه بأحرف من نور في صحائف الخالدين ، عاد لوطنه ليدفن في ثراه كأنه يقول لمصطفى سعيد : أخيرا عزيزي أنت وأنا كلانا عاد لوطنه بطريقته الخاصة ، الوطن الذي طالما أحببناه سويا ، وقاتلنا من أجله ولأجله خلف البحار معا .

كنا معه دائما وأبدا .
جمع من المثقفين غفير حضر المحاضرة عميقة الأغوار التي ألقاها الطيب صالح بالنادي الثقافي بالعاصمة العُمانية مسقط في 15 فبراير 1993 لم تستطع الصالة استيعاب الجموع فجلس العديد منهم على الردهات يتابعون أديبنا عبر الشاشات الداخلية الضخمة ، قال الراحل العزيز كلاما رصينا عبر صوته الإذاعي الجهور المميز ، انتقل بنا طولا وعرضا عبر جزيرة العرب ،  وقف واستوقف ، بكى واستبكى ، وقال فيما قال :
 عندما كنا أطفالا في السودان لم نكن نعلم أن هناك من يتحدث العربية غيرنا على وجه الأرض ، فضجت القاعة بالضحك ، تحدث الفقيد العزيز عن علاقته بالشعر العربي منذ الجاهلية ، وكيف يجد نفسه وروحه فيه ، وكيف انه تأثر بشعر المعري وأبو فراس والأهم علاقته الوجدانية مع صديقه عبر الدهور المتنبي الأسطورة :
يقولون لي ما أنت في كل واد وقرية وما تبتغي ما ابتغي جل أن يسما ، إذن ثمة علاقة من نوع ما لمسناها ربطت بالتأكيد ما بين الثلاثي المتوهج الطيب صالح ، المتنبي ، مصطفى سعيد ، إذ نرى أن المتنبي كان أشعر العرب على الإطلاق وانه لم يكن شاعرا فحسب ، بل كان حكيما أيضا ، وان مأساة المتنبي الحقيقية تكمن في انه لم يكن يعرف ماذا يريد على وجه الدقة ، وانه لذلك كان رجلا خطيرا باعتبار أن الغارقون في التفكير وأصحاب النظرة الهزيلة الجائعة هم بالقطع أناس خطرون .
كما نعتقد أن كافور الإخشيدي كان أعظم ضحاياه تماما كسيف الدولة ، ثم نحسب أن مصطفى سعيد لم يكن في الواقع يعرف ماذا يريد وان محاولته الفاشلة لإخفاء نفسه عندما عاد لوطنه طريدا أو زاهدا كانت تأكيدا على ذلك ، إذ ثمة صراعا ما برح يدور في دواخله ما بين وخزات الضمير عندما يعود من سباته في لحظات اليقظة الروحية ، وما بين خزي الهروب إلى الجنوب ، لابد أن ثمة عذابا أليما دفعه للإقرار:

مثلنا تماما أصر على فعل ذلك بنفسه
إن حياتي مهما كان من أمرها ليست فيها عظة أو عبرة لأحد ، ولولا إدراكي أن معرفة أهل القرية بماضيٌ كان سيعوقني عن مواصلة الحياة التي اخترتها لنفسي بينهم لما كان ثمة مبرر للكتمان ، واحسرني إذا نشأ ولداي احدهما أو كلاهما وفيهما جرثومة هذه العدوى ، عدوى الرحيل ، ثم هو يستطرد :
لكني اطلب منك أن تؤدي هذه الخدمة لرجل لم يسعد بالتعرف إليك كما ينبغي أن تشمل أهل بيتي برعايتك وأن نكون عونا ومشيرا ونصيحا لولديّ وأن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر ، جنبهما مشقة السفر ، وساعدهما أن ينشئا نشأة عادية ويعملان عملا مفيدا .

هل يا ترى قال مصطفى سعيد ما قال لأنه لا يريد لولديه أن يعرفا تفاصيل محاكمته الأسطورية في لندن إذ هو يقول عنها :

في قاعة المحكمة الكبرى جلست أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره ، مستر آرثر هيغنز عقل مريع أعرفه تمام المعرفة علمني القانون في أكسفورد ، لكنه هذه المرة كان يصارع جثة :

- هل تسببت في انتحار آن همند ؟..
- لا ادري
- وشيلا غرينورد ؟..
- لا ادري
- وايزابيلا سيمور ؟..
- لا ادري
- هل قتلت جين مورس ؟..
- نعم
- قتلتها عمدا ؟..
- نعم

إمتلئت قاعة النادي الثقافي بمسقط تماما يوم الأمسية
ومضى بروفيسور ماكسول فستركين يرسم صورة عبقري دفعته الظروف إلى القتل في لحظة غيرة وجنون ، ثم إن القاضي لم يملك غير أن يضيف :

انك يا مستر مصطفى سعيد رغم تفوقك العلمي رجل غبي ، إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة ، لذلك فانك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للإنسان ( طاقة الحب ) .

بروفيسور ماكسول فستركين من المؤسسين لحركة التسلح الخلقي في أكسفورد ، ماسوني وعضو في اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشيرية البروستنتينية في إفريقيا . لم يكن يخفي كراهيته لي أيام تتلمذي عليه في أكسفورد ، كان يقول لي في تبرم واضح :

( أنت يامستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا  عديمة الجدوى ، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة ) .  ومع هذا فهاهو يستعمل كل مهاراته ليخلصني من حبل المشنقة .

وسير آرثر هغنز تزوج وطلق مرتين ، مغامراته الغرامية معروفة ، مشهور بصلاته مع اليسار والأوساط البوهيمية ، قضيت عيد الميلاد سنة 1925 في بيته في سافرون ولدن ، كان يقول لي : أنت وغد ولكني لا اكره الأوغاد ، فأنا أيضا وغد ، لكنه في هذه المحكمة سيستعمل كل مهاراته ليضع حبل المشنقة حول عنقي .

ما قاله الطيب صالح لم يكن ليسد لي رمقا إذ أنا أحد تلامذته وعاشق لطريقته الخاصة في الكتابة والتعبير والإفصاح ، قلت له أريد لقاءا خاصا جدا معك ، قال ما عندي مانع ، وكنت بالفعل الصحافي الوحيد الذي خصه الطيب صالح بشرف محاورته والاستزادة منه .

هنا وللأخ العزيز الدكتور / حسن أبشر الطيب الخبير الإداري بوزارة الخدمة المدنية بسلطنة عُمان وقتها كل تقديري وحبي وإعزازي ، ذلك إن ثمة علاقة خاصة ومميزة تربط ما بين الدكتور حسن والفقيد الطيب صالح ، وشهد منزل الدكتور حسن في مدينة قابوس بمسقط هذا اللقاء الصحافي الهام بيني وبين الطيب صالح إذ قال لي كلاما كثيرا ومذهلا سيظل محفورا في الذاكرة .

بعدها كنا والفقيد ولفيف كريم من الجالية السودانية بمسقط ضيوفا على مأدبة العشاء بمنزل الأخ الدكتور/ على التوم بمدينة الخوير بمسقط  ، لقد أحسن المُضيف الإعداد لضيفه وضيوفه ، وتجلى الكرم السوداني في أبهى معانيه في تلك الأمسية التي لا تُنسى اصطحبت بناتي الثلاث وزوجتي إذ كانوا يتطلعون لمصافحته والتعرف عليه عن قرب ، قال لي : ماشاء الله ديل بناتك ؟.. قلت نعم ، قال : أنا ذاتي عندي ثلاث بنات ، ضحكت وضحك .

وزارة التراث القومي والثقافة العُمانية كانت هناك أيضا في تلك الأمسية الخالدة ، إذ تلقى الطيب صالح مجموعة فريدة من أمهات الكتب التراثية العُمانية إضافة لكتاب مذكرات أميرة عربية ، وهو كتاب نادر يحكي ويصور أسرار القصور السلطانية في عهد السلطان سعيد بن سلطان ، سلطان زنجبار وعُمان عندما كانت السلطنة إمبراطورية عظيمة امتد نفوذها على طول الساحل الشرقي لأفريقيا وكان للعُمانيين الفضل والقدح المعلى في نشر الدين والثقافة الإسلامية في تلك الأصقاع الإفريقية في القرن الثامن عشر ، وكانت زنجبار عاصمة تلك الإمبراطورية حيث قصر أو قصور السلاطين بها ، هذا جانب من التاريخ العُماني الضارب بجذوره  في أعماق التاريخ .

سر الطيب صالح بتلك الكنوز العُمانية الثقافية التي أهدتها له حكومة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ، فلم يملك إلا أن يقف ليعبر لمندوب الوزارة عن سعادته وابتهاجه بهذا الزخم الثقافي المُهدى إليه ، ثم أن ثمة نقطة أخرى ربما لا يعلمها البعض هنا في السودان هي حقيقة أن وزارة التراث القومي والثقافة العُمانية تضطلع منذ ثمانينيات القرن الماضي بمهام ثقافية غير مسبوقة في عواصم العرب إذ هي تقوم وعلى نحو دوري بتحقيق وطباعة أعدادا لا تُحصى من المخطوطات العُمانية النادرة في شتى دروب العلم ، إذ في عُمان ارث ثقافي وحضاري ضارب في القدم ويعود إلى ما قبل وبعد البعثة المحمدية الخالدة ، وكان لي شرف العمل بقسم الوثائق بوزارة التراث مطلع ثمانينيات القرن الماضي تحت قيادة الأخ الفاضل / محمد بن سعيد الوهيبي مدير التراث والأخت الفاضلة / زبيدة بنت جواد الخابوري  رئيسة قسم الوثائق ،  لقد غصت وقتها حتى الأذنين في بحور الوثائق والمخطوطات العُمانية النادرة فوجدتها كنوزا عربية لا تقدر بثمن وتحتاج من أمتنا العربية سرعة الالتفات إليها والاستفادة منها عبر إشباعها بالدراسة والتمحيص من قبل المهتمين والوثائقيين المعنيين بتاريخ أمتنا العربية المجيدة  .

بعدها جاء دور العشاء ، اخذ المُحتفى به عبر تواضعه الجم الطبق مثلنا تماما واختار ما يراه مناسبا من صنوف الأطعمة العديدة ، وحتى إذا ما أكلنا وارتوينا وحمدنا الله سرا وعلانية ، جاء دور الطرب العفيف ، لقد اختار مطربنا أستاذ الموسيقى المنشتح أحمد ضرار ، أغاني تتسق مع العبق الثقافي الذي كان يضوع ، فكانت الأغاني السودانية الحماسية التي تمجد البطولة والرجولة هي البداية والنهاية ، كيف لا ، وضيفنا فارس وله فتوحات وغزوات ، هنا وقف الجميع لـ ( العرضة ) ، وارتفعت عِصي الأبنوس السودانية المحلاة بالعاج فوق الرؤوس وهاجت الحلبة وماجت ، الطيب صالح وإذا المشهد الفريد وقف هو الآخر قال لنا بعفويته المعهودة : لكن أنا ما عندي عصايه ، ضحكنا ملء أشداقنا .

الدكتور/ حسن أبشر الطيب احتضن إليه صديقه وصديقنا الطيب صالح وكانت عصا الدكتور لا تزال فوق رأسه ، فلم يملك الطيب غير أن يكون قبضة يده اليمنى لعلها تشفع له إذ هو لا يملك عصا فعلا .

انفض السامر ، اصطحبت الطيب بسيارتي لإعادته لفندق الأنتركونتنتال بمسقط حيث ينزل ، قال لي : حتى الآن لم أكتب مقالتي الأسبوعية لمجلة ( المجلة ) اللندنية وقد حل موعد إرسالها . كانت سانحة لأساله عن الأماكن التي يراها أو يجدها أفضل للكتابة والإبداع ، باعتباري مثله تماما مهموما بعذابات الكتابة اليومية بصحيفة ( الوطن ) العُمانية  قال لي : أنا أكتب في غرف الفنادق ، لم يقل في غرفة فندق بعينه ، قال : الفنادق .

قلت لنفسي : ذاك إذن فيروس وعدوى الرحيل والسفر وقد استوطن كبد الطيب صالح كما استوطن قبلا كبد مصطفى سعيد وكبد المتنبي العظيم أيضا ، كل المبدعين إذن يعانون من هذا الداء الوبيل ، إذ لا يستطيع وطن ما ، أو بلد ما أن يشبع نهم هذه الأرواح المعذبة التي تحن دوما وأبدا إلى ارتياد الأفاق البعيدة النائية ، آن همند ، إحدى ضحايا مصطفى سعيد ، كانت تحن إلى شموس قاسية ومناخات استوائية والى آفاق أرجوانية ،  وكان هو في عينيها رمزا لكل هذا الحنين .

مستر سعيد سافر إلى الشمال وحيدا وصغيرا ، والدته فاطمة عبد الصادق قالت له آخر كلماتها ولم يرها بعد ذلك : سافر أو أبق ، أنت وشأنك ، إنها حياتك ، وأنت حر فيها ، يقول : كان ذلك وداعنا لا دموع ولا قُبل ولا ضوضاء ، مخلوقان سارا في الطريق معا ، ثم سلك كل منهما سبيله .

ثم حملني القطار إلى محطة فكتوريا وإلى عالم جين مورس كل شئ فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذارا لا لقتلها بل لأكذوبة حياتي .

عدت لنفسي بعد أن أسر الىٌ بهذا السر ، أنا وهو لا نزال داخل سيارتي يحدثني بصدقه المعهود وبعفويته الفطرية ، توقفت بالسيارة أمام بوابة الفندق الفخم ، قال : سأرتاح قليلا ثم أباشر الكتابة ، قلت : هل يستغرق المقال وقتا طويلا ، قال : لعل الليل كله ، أشفقت عليه بالفعل إذ اعلم عذابات الالتزام إزاء مطبوعته وإزاء قراءه ذاك عذاب عشناه بالضنى لأكثر من عقدين من الزمان بسلطنة عُمان العزيزة .

فيما قبل أن نصل إلى الفندق تعمدت اصطحابه في جولة سياحية في أرجاء مسقط وعلى طول شواطئها البحرية الجميلة ، لعل الطيب يلتقط شيئا ، وصدق حدسي إذ رأى والتقط ثم عبر لي عن سعادته بجمالها ونظافتها وتلك حقيقة لا تخفى على رجل في قامته .
فتح الطيب باب السيارة وترجل منها ثم مد اليّ يده عبر النافذة مصافحا ومودعا وشاكرا ، تلك كانت المصافحة الأخيرة ، وكان ذاك هو التلامس الأخير بين يدي ويده ، إذ عاد بعدها للندن ومات فيها ، وعدت أنا للخرطوم بعد سبعة أعوام من ذلك اللقاء لأموت فيها ، كلانا إذن إختار عاصمة موته .

سألت الطيب صالح في اللقاء الصحافي الخاص معه بمنزل الدكتور/ حسن أبشر إن كان مصطفى سعيد هو في الواقع الطيب صالح نفسه ، نفى أن يكون هو ، فمستر سعيد كما كما يراه الطيب كان نبته لبذرة غرسها الانكليز بأنفسهم وبأيديهم في مستعمراتهم القديمة ، وأن هذه النبتة طرحت ثمارها العلقم فيما بعد كأمر حتمي وحتى إذا ما تسربلت إليهم وذاقوها بدت لهم سوءاتهم ، لذلك لم يملك القاضي في الأولد بيلي من مفر غير أن يحنو عليه ..

ضرغام أبوزيد
ملحوظة : الصور حصرية ومحمية بموجب قانون حق المؤلف

عـــــودة قوية للأرقام العـربية بسلطنة عُمان


سلطنة عُمان الشقيقة ممثلة في الإدارة العامة للمرور بشرطة عُمان السلطانية أتخذت قرارا في عام 2001 بإستخدام الأرقام العربية الأصلية في لوحات المركبات بدلا من الأرقام الهندية التي نستخدمها بإعتبارها عربية إذ الصحيح هو أن الأرقام التي نسميها بالأنكليزية هي في الواقع الأرقام العربية الأصلية .
وكانت السلطنة هي الدولة العربية الوحيدة في المشرق العربي التي تتخذ هذه الخطوة الحضارية الغير مسبوقة والمستهجنة من البعض بإعتبارنا قد تركنا تراثنا العربي التليد وهرعنا لأرقام لا علاقة لنا بها تراثيا .
هذا في الواقع غير صحيح وغير علمي ، وبالفعل فعندما أنطلقت المركبات في شوارع السلطنة وهي تحمل لوحاتها الجديدة وبالأرقام العربية الأصلية الواضحة للعيان والتي تسهل عمل رجال المرور في أداء واجبهم  الرقابي أنطلقت الأصوات المنددة بهذا الأجراء .
على الفور هرعت إلى زاويتي (شراع) بالوطن العُمانية وكتب مقالا بعنوان : (عودة قوية للأرقام العربية ) ، قدمت فيه المبررات والتبريرات للخطوة الجريئة للإدارة العامة للمرور وذلك في العدد الصادر بتاريخ : 27/06/2001 .
معالي الفريق / هلال بن خالد المعولي ـ المفتش العام السابق للشرطة والجمارك بالسلطنة  بإعتباره المسئول الأول عن الشرطة وعن هذا الإجراء وجد في مقالنا ما يتعين الإشارة إليه والإرتكار عليه ، فيوم أن إستضافته الإذاعة العُمانية للحديث عن أسباب اللجؤ لهذه الخطوة وقتها كانت زاويتنا (شراع) حاضرة في البرنامج إذ إشار إليها معالية بإعتبارها هي نفسها المبررات التي لاذت بها إدارة المرور ، وكانت مدخلا لإقتناع المواطن العُماني بصحة الإجراء .
معاليه ويومها قدم لنا الشكر والتقدير على ما كتبناه ، واقعيا لم أنس هذا الشكر الجزيل ولن أنساه أبدا ، وها أنذا وبعد هذه السنين أعيد إجترار كلمات معاليه الطيبة حولي وحول ما كتبناه ، هذا الشكر وهذا التقدير لا يزال حيا في الذاكرة ، ومن هنا من الخرطوم وبعد هذه السنين الطوال أعيد توثيق هذه الواقعة لأعيد الشكر لمعاليه أين كان الأن في سلطنة عُمان الشقيقة بإعتبار إن القول الطيب هو كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، إذ ما قاله معاليه عنا لم نجده في الواقع ممن بنينا لهم قصرا منيفا ..

المواطن العُماني متواضع ومؤدب بطبعه


معالي / هلال بن خالد المعولي
أكثر من عشر أعوام مرت على الواقعة غير إنها لا تزال حية تتقد في رأسي ، وعبرها ومنها ومن أتونها تكبر يوميا هالات  الدهشة وعدم التصديق أو لنقل عدم الإستيعاب ..
المكان : عيادة الدكتور / هاشم سوار الذهب ـ بحي مطرح التجاري بالعاصمة العُمانية مسقط .
الوقت : حوالي الساعة الثامنة مساء .
المشهد الداخلي : إزدحام واضح ، كل المقاعد ممتلئة ، لا مكان لزائر جديد ليجلس إنتظارا لدورة ، الكل ملتزم بالنظام ، الكل يطالع ساعته متلهفا لحظة دخوله ومن ثم خروجه بالسلامة عائدا لبيته .
في طرف المقعد الطويل كنت أجلس وبجانبي زوجتي وأبنتي الصغيرة نضال التي أتينا بها للدكتور / هاشم ، وهي سوادني الأصل بولندي الجنسية ، وقد أشتهر في مطرح الكبرى بإعتباره  أحد الأعلام في الفرع الطبي الذي تخصص فيه ، بل كان في ذلك الوقت هو الوحيد الذي يشار إليه بالبنان ، وقد جئنا إلينا بتوصية من الكثير ممن زاروه قبلا فوجدوا عنده العلاج الناجع .
فجـــــــــــــاة
دخل العيادة رجل نظرت لوجهه فأيقنت قسما إنني أعرفه ، بدأت التفكير من يكون من يكون ، وما أسمه ، وما عمله ، بغتة إستقر الأسم كاملا في عقلي ، قلت لنفسي يا إلهي أيعقل أن يكون هو ؟.. جاء وهو يرتدي الدشداشة العُمانية المعروفة ويعتمر (الكمة) في رأسة ، تلفت يمينا ويسارا فلم يجد مكانا خاليا ليجلس فيه ، فأثر الوقوف إنتظارا لدوره .
على الفور نهضت من مكاني وتقدمت نحوه وقلت له تفضل معاليكم بالجلوس في مكاني ، أصر على الوقوف ، وأقسمت على أن يجلس في مكاني ، وأشتد حمي الجدل الخافت بيننا ، وفي نهاية المطاف تقدم بإقتراح وافقت عليه ، قال لي : نجلس (رباعة) أي سويا في نفس المكان ، أبلغت زوجتي بان تضغط في الجهة الأخرى لنحصل على بعض سنتمرات من (الكنبه) ففعلت ، أصر على أن أجلس أولا ففعلت ، ثم جلس هو ثانيا في أدب وخفوت صوت .
لا أحد ممن كان في العيادة في ذلك الوقت قد إنتبه عمن يكون هذا الشخص الذي كنت أحاوره وكان يصر على أن يظل واقفا ، زوجتي بجانبي هي الأخرى لم تعلم من هو هذا الشخص الذي يجلس بجانبي وفي بضعة سنتمرات ، في البيت أخبرتها فشهقـــــت وكاد يغمى عليها إذ هي لم تصدق ما قلته لها .
هذا المواطن العُماني العادي كان في الواقع معالي الفريق / هلال بن خالد المعولي ـ المفتش العام للشرطة والجمارك وقتها ، هو الوزير المسئول عن شرطة عٌمان السلطانية بأسرها ، وهو الوزير المسئول عن توفير الأمن للمواطنين والمقيمين في كل أنحاء السلطنة .
لا أخفيكم سرا إنني إذ معاليه يجلس بجانبي لحد التلاصق دارت بخلدي سيناريوهات عديدة أخذت تمور وتفور كمرجل في عقلي ، بعضها كان مضحكا ، وبعضها كان مبكيا ، وبعضها كان غارقا في بحور تراجيديا سوداء المعالم والملامح .
فقد جنح خيالي بعيدا ، لأتصور بل لأتخيل بان هذه الواقعة التي لا تصدق قد حدثت في إحدى الدول النامية ، عندما يقرر وزير الداخلية والمسئول الأول عن الشرطة والأمن زيارة عيادة لأحد الأطباء ، فماذا سيحدث ، وكيف ستتم هذه الزيارة ، وماهي نتائجها وإحتمالاتها وماهو تأثير غبارها وعثارها على المواطنين تعساء الحظ والذين تواجدوا في العيادة الطبية لحظة زيارة معالية لها؟..
تخيلت بداية بأن رجال الأمن وهم يحملون سياطا وعصي وعدد كاف من القنابل المسيلة للدموع سيتقدمون معاليه بوقت كاف للعيادة المذكورة ، وقتها فإن معاليه لا يزال جالسا في مقعد سيارته محفوفا بطوقه الأمني .
رجال الشرطة سيبدأون في تنظيف العيادة من النمل البشري تمهيدا لدخول معالية ، أما من يعترض على الخروج من ما يسمون أنفسهم بالمواطنين فان علاجهم موجود بحوزة الشرطة ، وعندما يتم تنظيف العيادة تماما سيترجل معاليه محفوفا بطوقة الأمني المحكم ليقابل الطبيب في إطار الخصوصية الواجب توفيرها لمعاليه ، وبعد خروجه بالسلامة يمكن للصراصير البشرية أن تعود مجددا إن أرادت ..
هذه الصورة وبكل ملامحها وتفاصيلها دارت بخلدي إذ معاليه يجلس بجانبي ، ضحكة مجلجلة قررت أن تخرج بغير إردة مني ، غير إنني كنت أسبق فأغلقت الباب دونها ، ولم يسمع معاليه شيئا ولم يعلم إلى أين قادني هذا الخيال المجنون ...
ألم أقل لكم سادتي أن المواطن العُماني مؤدب ومتواضع بطبعة ...