الخميس، 7 فبراير 2019

السودان بين سندان الواقع ومطرقة المستقبل

إذا كنا قد طالبنا مرارا وتكرارا عبر مقالات وتغريدات وتعليقات طالبنا من الأحزاب السودانية بعددها ذاك المهول طالبناهم بالإندماج وصولا لثلاثة أحزاب على أكثر تقدير ، إلا إن ماقلناه وقتئذٍ لم يجد آذنا صاغية ، ذلك أنهم وجميعا يتطلعون للسلطة وللجلوس على الكرسي الملعون ، ورغم أن السعي للوصول لتلك الغاية هو حق مشروع ولاغبار عليه ، ولكننا نتحدث هنا عن فوضوية وجود أحزاب بذلك العدد ، ففيه تشتيت للقوى وتفريق حتمي بين أبناء الوطن في شعاب المصالح الذاتية لا الوطنية بالضرورة ، إلى أن جاءت الإحتجاجات الأخيرة لتكشف عوارات تلك الأحزاب ، ليتضح لنا جميعا أنها لاتملك من أمرها رشدا ، وأنها لاتملك أي رصيد جماهيري يذكر ، وأنها صفر ضخم على الشمال لا أكثر ولا أقل .
الإحتجاجات قادها (الشباب السوداني) هكذا يمكننا تلخيص الواقع ، وحتى من يسمون أنفسهم بـ (تجمع المهنيين) لا نحسب إنه قد قاد الحراك الأخير ، الأسباب الموضوعية والواقعية والمنطقية هي التي حركت الأحداث ، الشباب وجدوا أنفسهم في قارعات الطرق ، كل الأبواب كانت أمامهم موصدة ، كل الآمال التي يحلمون بتحقيقها رجاء وعشما في مستقبل مشرق لم تكن إلا حشفا ، كل تلك الإرهاصات كانت تلمع أمامهم هناك في متاهات الشوق النبيل وفي بحور السراب البعيدة وإذ هي تنادي بأن حي على الضياع ، كل الذين لفظتهم الجامعات ولا نقول تخرجوا فيها هم عطالى وبعضهم قد ضل صراحة سواء السبيل ، فعاقر المنكرات والمخدرات أو هي التي عاقرته لايهم ، وزاد الطين بله واقع إقتصادي معروف ولسنا بصدد وصفه وإعادة رسم سحناته التي لا تسر الناظرين .
لن ننسى أبدا مجموعات الشباب السوداني الذين وقعوا ضحايا للعصابات الليببية فساموهم سؤ العذاب ضربا وسحلا وتعذيبا ، شاهدناهم في مقاطع فيديو تم تداولها على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، عندها أيقنا بأن هؤلاء الشباب وهم فلذات الأكباد حقا ، آلوا على أنفسهم إجتياز الحدود السودانية الليبية هربا من المصير الأسود الذي ينتظرهم في حضن الوطن الذي ماعاد دافئا بل غدى ساما وحارقا وقاتلا ، رأوا في العذاب والهوان في الصحارى الليبيه أو على متن قوارب الموت في عرض المحيطات تتناوشهم أسماك القرش ويواجهون غضب الأمواج العاتيات أملا في الوصول لشواطئ إيطاليا ومنها لفراديس أوروبا الرحيبة ، أولئك الأعزاء هو الأعز في دنيانا نحن الأباء الأجلاء إفتراضا ، تركوه لأن الوطن لايستحق أن يُعاش فيه ، هكذا غدى ، ثم إنه قد بخسهم حقهم في الوجود على ترابه ، فتركوه ميممين وجوههم صوب وصدر الموت الحنون ، فهم وأن ماتوا غرقا أو سحلا أو غدرا فهذه هي الشهادة الحقه المفضية لجنات الله الرحيبة .
هذا المشهد بكل ضبابيته ، بكل دخانه ، بكل لهيبه وناره ، بكل عذاباته وآلامه ، بكل جراحاته النازفة من شرايين الحقيقة الساحقة والماحقة هي التي قادت الأحداث في شوارع المدن السودانية وليس تجمع المهنيين ذلك الكيان الواتسابي والفيسبوكي المفتقر للأسماء والشخوص التي من المفترض أنها تقود الأحداث جهرة لا خلف الأبواب الموصودة في عواصم أوروبا  أو لنقل أنها تقود الأحداث فيما خلف دخان الضباب وهما وزعما .
المحصلة أن الأحداث قد رسمت لنا صورة واضحة لملامح السودان الجديد فيما بعد موت الأحزاب السودانية وتشييعها لمواثها الأخير الذي لاقيام بعده ، تفريقا مابين موت الإنسان الذي سيعقبه نشور آت لامحالة ، ومابين موتها الذي لانشور بعده أبدا .
 لقد قرر شباب السودان الإعلان للأمة السودانية الصابرة لاتزال ، إنتهاء العصر الطباشيري السوداني الكالح الملامح والقسمات ، والمتدثر بأسمال الحزبية وبالقبلية والطائفية والعشائرية والمناطقية ، وبداية عصر جديد عنوانه الدال عليه في الآفاق البعيدة والمقترنة هناك مع خط الأفق أو خط الإستواء هو ميلاد السودان المتحد والذي يقوده الشباب لا الكهول ، الشباب المؤمن بوطن واحد تسوده العدالة وحكم القانون ، ولا مكان فيه لمحسوبية أو عشائرية ، تلك الأفات والديدان التي أقعدت الوطن منذ إستقلاله العاثر عام 1956 .
التظاهرات لم تمجد قبيلة أو طائفة أو حزب ، كانت مطالب قومية سودانية مشروعة وذلك في إطارها المنطقي وقبل أن يحاول أصحاب الأجندة الخاصة إستغلالها لتمرير أهدافهم الشريرة التي تروم النيل من الوطن تدميرا وتمزيقا ، في إطار الخارطة الإقليمية المعدة سلفا والموجودة حاليا في خزائن الأعادي في واشنطن وتل أبيب والتي تشير إلى عدة أقطار مترنحة ومتفاوتة في المساحة ، ومتساوية في الضآلة ، ومتشبعة من قمة الرأس حتى أخمص القدمين بالمقت والكره لدويلات الجوار ، والتي كانت تمثل السودان القارة قبلا .
الآن في التو واللحظة فإن مانراه ماثلا أمامنا هو ميلاد (حزب الشباب السوداني) كحزب جديد نهض وسمق فوق رفات وجماجم أحزاب التيه السودانية التي أُبتلي بها الوطن طيلة عقود من الزمان قاسية ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع في خطبة حجة الوداع أسس قيام دولة العدالة الإسلامية وعاصمتها المدينة المنورة فإنه قد أقامها بعد أن مزق دستور الجاهلية أمام الملأ وبضربة سيف واحدة .
أعلن بداية أن لامكان للمحسوبية ذلك الفيروس الذي مزق أكباد شباب الوطن ، كان الفرمان الأول قاسيا على (آل عبد المطلب) وهم الأهل والعشيرة ، حدث ذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم إن ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن (عبد المطلب) ، وأن دماء الجاهلية موضوعة وأول دم أبدا به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن (عبد المطلب) ، وكذلك قال المصطفى وأيم الله لو أن (فاطمة) بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، إذن على تلك العمد قامت ياسادتي دولة العدالة وقبل أن نقول دولة الإسلام الأولى ، فإن لم تكن للعدالة تاج وصولجان وسلطان في حماها فلا هي مسلمة ولا سكانها مسلمون .
في سودان الإقطاعيات الطائفية والحزبية وسودان الأيدلوجيات الإسلامية زعما لا تطبيقا محمديا ، لم يتجرأ أحد منهم وهم دهاقنة المحسوبية التي أصابت شباب الوطن في مقتل  لم يتجرأ أحدهم على النأي الأبدي من الأقارب والزوجات والأبناء والأحفاد وإذ الأمر متعلق بقيادة دولة لابقيادة ضيعة ، فكانوا ولا يزالون كبراغيث تمتص رحيق دماء الشباب قبلا والكهول حاليا ، والشباب حاليا والكهول غدا ، هؤلاء هم ورثة ربا الجاهلية الموضوع بأمر رسول الله .
 إذن ماتمخض عنه هذا المخاض العسير والأليم هو حزب الشباب من خلال شعارهم المرفوع إسفيريا (تسقط بس) ، وحزب (الشهب) أو حزب (النجوم) هكذا أسميه ولهم الحق في الإحتفاظ بالإسم القديم ، وبه شباب أيضا تلك حقيقة ، وبشعاره المرفوع إسفيريا أيضا (تقعد بس) ، ومادون ذلك لاوجود لأي نوع من أنواع النمل ولا وجود حتى لدابة الأرض التي كانت ومابرحت تأكل منسأته حتى خر ، ودابة الأرض السودانية معروفة بالإسم وبالشكل وبالقسمات وقد نزلت الميدان مؤخرا تروم القيادة إختطافا من أيدي الشباب ، فكان أن أنفض الشباب وتركوا الدابة وحيدة تلعق مرارة الهجران الأليم .
وبناء عليه فعلى كل حزب إختيار رئيسه الشاب ديمقراطيا من الآن وليكن على وزن الأثيوبي أبي أحمد أو لنقل أفضل منه  علما وأدبا وتواضعا وعزة ، ويجب أن لا يزيد عمر الرئيس عن 40 عاما فقط ، وهو الذي سيغدو الرئيس السوداني المنتخب رقم (2) ، وليستعد الجميع لخوض انتخابات 2020 وتلك هي التي ستفضي لميلاد السودان الجديد على قيم المحبة أولا ، والعدالة ثانيا ، والديمقراطية ثالثا وأخيرا ، وبذلك فقط يمكننا أن نراهن على بزوغ نجم جديد وساطع وباهر ومبهر إذ بحكم إمكاناته وموارده هو الأغنى والأغلى في عموم إفريقيا القارة ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب

الأحد، 3 فبراير 2019

كان معي كذاب ومنافق


يعمل سائقا ، لديه سيارة (بوكس) هي المصدر الوحيد لرزقه ورزق عياله ، ذات يوم إستوقفته امرأة مع شقيقتها طلبتا منه أن ينقل لهن بضائع من الخرطوم لأمدرمان في مقابل 150 جنيها ، كان هذا قبل 13 عاما من الآن ، وافق وقام بشحن البضائع التي إرتفعت لأعلى وبنحو يخل بقانون المرور ، وعند عبوره كبري الإنقاذ الذي يربط بين الخرطوم وأمدرمان فوق النيل الأبيض إستوقفه شرطي المرور ، وحرر له مخالفه لقاء الشحن الخاطئ ، غير إنه وفي سبيل إقناع الشرطي لتجاوز المخالفة أقسم له بأن هذه البضائع تخصه شخصيا ، وأن المرأة التي تجلس عن يساره هي زوجته ، والأخرى شقيقتها ، وإنه في الواقع ينقل هذه البضائع لمنزله الجديد في أمدرمان والذي إنتقل إليه مؤخرا .
الشرطي طلب منه النزول وإنتظاره هناك على بعد بضعة أمتار ، ذهب إلى حيث أمره الشرطي وفي نفسه كانت أهازيج الظفر تعلو وتهبط كأمواج النيل الأبيض على بعد مرمى حجر من حيث هو .
لم يكن يدري لماذا أمره الشرطي بإنتظاره هناك ، لم يدر بخلده قط أن الشرطي سيسأل النسوة عن علاقة الرجل الاجتماعية بهن ، السؤال كان مباغتا ومباشرا لهن ، فأجبن ببرأة إنهن قد إستئجرنه لنقل بضاعتهن وفقط ، ثم سأل المرأة التي عن يساره هل هو زوجك ، نفت بشدة ، ويبدو إنها لم تنتبه لما قاله السائق للشرطي قبل سويعات .
توجه الشرطي للسائق وكانت إبتسامات الظفر الكذوب لا تزال مشرقة على شفتيه ، وإبتدره بكلمات قاصمات للظهر : أنت كذاب ومنافق .
قال لي اليوم حيث أجتر الحكاية وكنا نتحاور حول الصدق والوعد لقد قتلني ذلك الشرطي منذ 13 عاما مضت ، وإستطرد تمنيت صادقا أن يخسف الله بي الأرض في ذلك اليوم الأغبر وأن لا أسمع هذا النعت الساحق ، تمنيت أن يحقق الله عز وجل لي أمنية مريم البتول عليها السلام عندما قالت : ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .
وأضاف لم أستطع أن أرفع عيناي لوجه الشرطي ، كنت أنظر فقط للأرض ، كانت كلماته تلهب ظهري بسياط من نار ، وكنت أرددها في سري وعلني أنا كذاب ومنافق ، نعم أنا كذاب ومنافق ، إذن أنا وعبد الله بن أبي سلول في ذات الدرجة الرفيعة ، يا ألهي ماذا فعلت لنفسي وبنفسي ، وفي هذه النقطة تسربل الدمع من عينيه رغم أن الحكاية حدثت منذ أكثر من عقد من الزمان :
قال : لقد كرهت نفسي عندما إستطرد شرطي المرور لن أسامحك أبدا ، عليك دفع المخالفة كاملة وهي 50 جنيها وفورا ، حرر لي مخالفة على المخالفة ، لكنه لم يحرر لي مخالفة مالية على حكالة كوني منافق وكذاب ، ياليته حرر لي مخالفة مالية تمسح عني عار حقيقة إنني بالفعل كذلك ، يالتفاهتي ، يالحقارتي من أجل الهروب من دفع 50 جنيها أتساوى مع الملعونين في القرآن .
كنت كالمخمور أتهادي في الطريق بحثا عن شخص ما يقرضني قيمة المخالفة ، فأخر 50 جنيها كانت بجيبي إشتريت بها بنزين قبل تلبية هذه المشوار اللعين .
على بعد مائة متر وجدت بقالة على الطريق ، طلبت من البائع أن يقرضني 50 جنيها لأدفع قيمة المخالفة وأعطيته هاتفي النقال كضمانة .
البائع هو الآخر لم يرحمني ولم يراعي ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، قال لي خذ المبلغ لكنني لن أستلم منك الهاتف ، فإن أعدت المبلغ الحمد لله وإن لم تعده أسال الله أن يسهل عليك ، كانت تلك الطعنة الثانية في تلك الليلة الليلاء ، لقد وصلت رسالة الله عز وجل إليّ
سريعة ومفادها لو أنك قلت الحقيقة للشرطي لأوجدت لك مخرجا ، وهاهو المبلغ الذي نلت بموجبة شهادتك القذرة قد أعطيناك له سهلا وعلى بعد خطوات من حيث الواقعة ، تماما كما اعطينا رسول الله الكوثر قبل ذلك ، أخذت المبلغ وعدت للشرطي ودفعت قيمة المخالفة وكنت لا أزل مطاطئ الرأس ، ويتصبب العرق من رأسي غزيرا ، لم أجرؤ على النظر لوجه الشرطي ، ولا أدري ماذا كان عالقا بوجهه من سيماء الإحتقار لهذا الكائن الوضيع .
أكملت مشواري ، ولم أنبس ببنت شفة ، لم أقل للنسوة شيئا ، فهن كن أرجل مني وأصدق مني لقد قلن الحقيقة ، أما أنا فقد نلت أشنع شهادة تقدم لمسلم ولا أقول لمؤمن على وجه البسيطة ، سألت الله في سري وفي علني أن يغفر لي هذا الذنب الوبيل ، والأمر والأدهى إنني وبعد أن أكملت المشوار وإستلمت قيمته عدت للرجل الذي أقرضني المبلغ ، صفعني بقسوة عندما رفض إستلام الـ 50 جنيها تلك التي أوردتني مورد الهلاك ، تعسا لي .
بعدها بسنوات أصطحبت والدتي للعمرة ، وأنا أطوف حول البيت العتيق جاءني الموقف والمشهد الأسوأ في كل حياتي ، جميعنا كنا هناك أنا والنسوة وشرطي المرور فضلا عن كذباتي القاتلات ، لا أدري كيف وصل كل هؤلاء إلى مكة المكرمة ، فها أنذا الكذاب والمنافق أطوف حول البيت العتيق سائلا الله المغفرة والتوبة ، إنتقلت للسعي بين الصفا والمروة ، كان الشرطي يركض من خلفي ومن أمامي وهو يردد كلماته القاتلات ، كذاب ومنافق ، عندما أكمل الحكاية كانت الدموع تبلل وجنتيه ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب ـ الخرطوم
dirgham@yahoo.com