الجمعة، 24 أبريل 2015

كارثة سودانية قومية أسمها ... المواعيد



عندما عدت لوطني السودان يا سادتي قادما من سلطنة عُمان قبل سنوات وأنا مشبع لا أزل بروح المسئولية والأمانة ثقيلة الوزن هائلة الحجم تلك التي حملها الإنسان إذ هو ظلوما جهولا ، كما إنها أي المسئولية هي أصلا جزءا
هذا الشئ لا قيمة له في السودان أبدا
أصيلا من عملنا الصحفي ذاك المحفوف أبدا بالمخاطر والأهوال ،  فكان عليّ التأقلم من جديد مع مجتمعي السوداني الذي غبت عنه لعقدين من الزمان ، وقتها وعندما غادرنا هذا الوطن كان كل شئ هادئ ومستقر وأصيل وجميل وعفيق ونظيف ، وكانت روح المسئولية في قمة عنفوانها وما دونها غير مقبول ومرفوض وذميم  ودميم .
وعندما عدنا بعد تلك الغيبة الطويلة لم نجد ما تركناه كما هو ، لقد إختلط الحابل بالنابل ، وما أمست العفة هي العفة ، وما عادت الوجاهة تعني النظافة ، وما عاد الكذب يعني الوضاعة ، وما عادت البذاءة تعني السفاهة ، وما عاد الغش يعني الخداع ، قالوا لنا إن كل شئ أمسى سهلا وأهلا ونسبيا أيضا كالجمال تماما ، فما أراه جميلا قد تراه قبيحا ، وبالتالي وقياسا عليه فما أراه حراما قد تراه حلالا ، وما أراه أسودا قد تراه أبيضا ، أو رماديا وبناء على مقدار الزاوية التي تنظر منها حادة كانت أو منفرجة أو قائمة ، قالوا أن الأمور غدت كذلك ، وإن علينا أن نتصالح ونتعايش مع هذا الواقع الجديد وإنه وفي مطلق الأحوال لا مفر ، كما إنه وأيضا لا ضرر ولا ضرار .
غير إن في دواخلنا كان ثمة وميض نار لم تخمده الحقائق الجديدة علينا رغم إنها قيلت لنا تحت القسم ، وبالتالي كان من الواجب أن تغدو كماء من السماء منهمر ، تماما كماء السيل العارم الذي أغرق قوم نوح عليه السلام ، ورغم كل ذلك فإننا لا نزال علي قناعة تامة مفادها أن ثمة شئ بالتأكيد غير سوي وغير مستقيم وغير عادل ، كنا ولا نزال نصارع ونتصارع مع مجتمعنا هذا السوداني الغريب في قضية (الوقت) ، وفي مأساة الزمن الذي يمضى سدي ، بغير إكتراث ، بغير ندم ، بغير عويل ، بغير نحيب ، ليست مأساة أن نتخلف عن الموعد المضروب بساعة أو ساعتين ، لا مشكلة ، لا كارثة ، لا قضية ، على هذا النحو فإنني يا سادتي أمضي بخطواث واثقة نحو الجنون الأكيد .
لقد وصف الله عز وجل سيدنا إسماعيل عليه السلام الجد الأكبر للمصطفى  صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بصفة واحدة وضخمة وهي إنه (صادق الوعد) ، ومن صلب صادق الوعد هذا أتي سيد الخلق وأكرم الخلق وشفيعنا في اليوم الذي لا ظل فيه إلا ظله ، فلو كانت هذه القضية ليست قضية لماذا وصف الله إسماعيل بها خلافا لما يقول أهلي هنا في السودان ، بالقطع لا بد من وجود مخطئ ، وبالجزم هو نحن ، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نحن كذلك ؟..
في السنة الأولى لوصولي لأرض الوطن حدد لي رئيس تحرير صحيفة سودانية موعدا لمقابلته وهو الثامنة مساء ، ذهبتت لمكتبه كما كنا نفعل في مسقط قبل الموعد بربع ساعة ، أزفت الثامنة مساء ، ثم التاسعة ، ثم العاشرة ولم يأت (فخامته) عدت للمنزل وأنا في أشد حالات الغضب ، سألوني لماذا أنت كذلك ، أخبرتهم ، ضحكوا كلهم وجميعهم ، غضبت أكثر إذ لم أكن أعلم لماذا يضحكون .
وبعد أن سكت عنهم الضحك قالوا لي وببساطة متناهية : لا تحزن ولا تغضب حتى لا تموت بداء الضغط ، لا عليك ، فليست هناك مشكلة ، ثم أوضحوا لي الأمر على نحو جلي ، قالوا إن قال لك أحدهم لنلتقي الثامنة فببساطة شديدة عليك الحضور في التاسعة أو العاشرة ، فالذي حدد لك الموعد لن يأت إلا في الموعد السوداني العشوائي البدائي فادح العواقب ولن يسألك عن سبب تأخره وتأخرك فكلاكما سوداني ، إذن لا مشكلة !! ..
وبما إنني فهمت الدرس وإستوعبت الحكاية فلم أعد أغضب ، بل بت أبتسم ، ثم تطور الأمر عندي إلى إنني بت أضحك كناية عن السعادة مع كل موعد سوداني مضروب وفق المعنيين ، بألامس يا سادتي كنت على موعد في مؤسسة حكومية سودانية هامة ،  الموعد المحدد وبناء على ما هو مكتوب على المستند الرسمي الصادر من المؤسسة وبخط عريض وواضح هو (الثامنة صباحا) ، أنطلقت من البيت أسابق الريح فقد نسيت الدرس ولا ادري لماذا ، وصلت هناك الثامنة إلا ربعا ، وتماما كما كنا نفعل في مسقط ، توجهت نحو بوابة المؤسسة الحكومية فمنعي الشرطي من الدخول بإعتبار إنني أتيت مبكرا ، طلب مني الإنتظار هناك .
في التاسعة والنصف تم فتح الباب الخارجي وسمح لي بالدخول ، عدت لنفسي سريعا ، وأخمدت وبقسوة جذوة الغضب التي حاولت ان تطل برأسها ، وضعت إبتسامة عريضة على شفتيّ ، ومددت يدي مصافحا المسئول صاحب الموعد ، لم أساله يا سادتي عن سبب تأخره ، كما لم يسألني عن سبب قدومي مبكرا ، وهكذا فقد أثبت سودانيتي عمليا وبت راضيا عن نفسي وكما ينبغي !!  ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب مستقل
هاتف وواتساب : 00249121338306

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق