الأربعاء، 23 أغسطس 2017

تجربتي الشخصية مع العنصرية

إذا كان الدكتور الطبيب السوداني عبد الله قد تعرض لإعتداء (لفظي) في السعودية كما يحلو لوسائل الإعلام أن تقول ، وكانت الواقعة بكل مشاهدها وفصولها الدامية مطروحة للذبح والسلخ في مقالنا يوم السبت الماضي بعنوان (عودة نظام الأبارتيد لجزيرة العرب) ، فإنني وفي الواقع أرى وكما كنت أقول دائما بأن الأخ عبد الله وفي الواقع قد تعرض لإعتداء (عنصري) ، تلك هي الحقيقة المجردة وبدون زيادة أو نقصان ، مع تقديري لكل
الزملاء والكتاب الذين حاولوا الهروب من الكلمة الشنيعة وإستبدالها بأخرى مؤطرة بسياج الأدب ، غير إنها لا تغني عن الحقيقة شيئا .
إذن فإن القضية التي نحن بصددها هي (العنصرية) ، وتحديدا العنصرية (اللونية) ، لينداح السؤال الكارثة من تلقاء نفسه مخاطبا جمعنا الكريم :
هل نحن العرب عنصريون ؟..
بدون مواربة فإن الإجابة وبكل أسف هي (نعم) ، فنحن لسنا خير أمة أخرجت للناس ، بل نحن اسوأ أمة أخرجت للناس ، ثم هل العنصرية اللونية التي تجرع كأسها العلقم الدكتور عبد الله هي وقفا على السعودية وحدها دون بلاد العرب ؟.. الإجابة بالطبع لا ، فالعنصرية اللونية موجودة في معظم بلاد العرب ، رغما عن إن الإسلام  هو الديانة الأساسية فينا ، ومع هذا فنحن (عنصريون) حتى النخاع ، دكتور عبد الله آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، فإستطاع التسامي فوق سودانيته وإحتسب وصبر ، وإذا كنت قد ذكرت بإنه قد تسامى فوق سوادنيته فإنني أعني بإنه ولو إلتزم بالنص السوداني كاملا في هكذا حالات لكان المعتدي الآن وفي التو واللحظة قد أمسى نسيا منسيا وإنه بات جزءا من الماضي الذي لن يعود ، فهنيئا لدكتورنا تلك المنزلة الرفيعة التي ما بلغها سوداني على ظهر الأرض قط .
وبما إن الشئ بالشئ يذكر ، فإن حادثة السعودية قد هيجت فينا كوامن الجوى ، ثم أشعلت مرجل الذكريات البعيدة الغائرة حتى فاض التنور إيذانا بفتح أبواب السماء بماء منهمر .
الزمان منتصف تسعينيات القرن الماضي ، المكان العاصمة العُمانية مسقط ، وقتها كنت أشغل وظيفة مدير الإدارة بجريدة (الوطن) العُمانية ، لدينا تشكيلة من العاملين ومن جنسيات عربية وآسيوية ، الأمور على مايرام كانت تسير ، وذات صباح أغبر ، كان ثمة أمر يتعين إبلاغه للزميل / ن ق ، مصري الجنسية ، ورغم إنني لم أكن أتعامل مع الذين أترأسهم على أساس الجنسية أو اللون أو الدين أو العرق وهذا مايعرفه الجميع عني في السلطنة ، وما إن بلغ الأمر للزميل ن حتى جاءني ثائرا لا عنا كالموج لا يلوى على شئ ، وفي تلك النقطة إلتصقت الأرض بالسماء بغته عندما قالها وكان يعني مايقول :
ـ تتحدث مع أسيادك
يا إلهي ، فحتى تلك اللحظة ، وحتى ذلك الزمان ، لم أكن أعلم بإن لي سيدا على ظهر الأرض غير الله ، السيد / ن ، زعم بإنه هو ذلك السيد المفترض حقا لا جدلا ، وبما إنني قد قلت لكم بإن دكتور عبد الله قد تسامى فوق سودانيته في السعودية يوم تلقى صفعته العنصرية المدوية ، فإنني وفي الواقع لا يمكنني الإدعاء بإن تلك الطريقة تروق لي  ، ماحدث لا يمكنني وصفه لكم تحديدا ، فالكلمات نفسها لا تستطيع أن تصف ماحدث ، ذلك إن السيد ن كان لا يقوى على السير بعد أن فجر قنبلته العنصرية في مكتبي بالطابق الثاني بمبنى الوطن الكائن بالغبره بالعاصمة العُمانية مسقط ، أخرجوه من مكتبي محمولا على الأكتاف .
ثم رفعت الحادثة بكل دخانها وعثارها وغبارها وصخبها وجنونها للفاضل الأستاذ / محمد بن سليمان الطائي ، صاحب الإمتياز المدير العام رئيس تحرير الوطن ، فأصدر أوامره لي بإجراء اللازم حيال الحادثة العنصرية البغيضة التي شهدها مبنى الوطن ، وبإعتبار أن لامكان لهكذا عبث على ثرى سلطنة عُمان ، واللازم يتمثل في إنهاء عقده وإبعاده من السلطنة فورا في أول طائرة متجهة للقاهرة ، وهذا ماحدث بالضبط .
غير إنني قد وصلت لمرحلة التسامي التي وصلها دكتور عبد الله من زاوية أخرى تلك هي الخاصة بقناعاتي الشخصية ، فقد كنت أؤمن بان الزميل ن ، تصرف بنحو فردي ولا أستطيع التأكيد بإن كل الزملاء المصريين يؤمنون بنظرية السيد المصري في مواجهة العبد السوداني ، والدليل على ذلك إنني لم أر منهم مايشير إلى ذلك أبدا ، كما إن علاقتي بهم ومنذ الواقعة وما قبلها وما بعدها هي علاقة جد متينة ، وتربطني بهم حتى اليوم علاقات إجتماعية وأسرية راسخة ، وهم معي الآن وفي التو واللحظة في الجروب الذي أشرف عليه (قدامى المحاربين الإعلاميين العرب) نتبادل صباح كل يوم جديد أنخاب الحب وتحايا الود المعطر بماء الورد .
وماطالبت به السلطات السعودية في المقال السابق بضرورة تنقيح المناهج الدراسية والتربوية بغرض الوصول للبؤرة التي جعلت العنصرية اللونية باقية منذ الجاهلية وحتى الآن وبغير أن يلوح في الأفق أي بصيص أمل في إنزواءها ، رغم إن القرآن فينا لايزال يتلى آناء الليل وأطراف النهار ، ذاته المطلب ينسحب أيضا على مصر الشقيقة فقد تكررت عبارات العنصرية اللونية من مصريين وحادثة لندن الشهيرة كانت تأكيد على ذلك ، وحادثتي الشخصية كانت أقدم منها بأكثر من عقدين من الزمان ، ذلك يؤكد بإن هناك شئ ما خاطئ في العقيدة الإجتماعية المصرية ، أنا لا أدري أين هي ولكن أهل مكة أدرى بشعابها بطبيعة الحال ، ويمكنهم الوصول إلى تلك البؤرة الخاطئة الكاذبة إن هم أرادوا ، ويبقى علينا فقط أن نذكر الواقعة للتاريخ لنضيفها الى مآسي العرب والى أماسيهم أيضا .
لتدعوا جامعة الدول العربية وزراء خارجية العرب إلى إجتماع عاجل ليتدارسوا فيه أسباب بقاء العنصرية اللونية حية تتقد في بلاد العرب على الرغم من إن بلادهم كانت مهبط الوحي ، وفيها بعث الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم .
 القضية خطرة بكل المقاييس ، وهي دليل كافي على حقيقة إننا أمة لن تتقدم خطوة واحدة للأمام ، وإننا وأبدا أبدا لن ننعم برضى الله عز وجل مصداقا لقولى تعالى :
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ .. الأعراف آية 96 .
فنحن لاتقوى لدينا ولا إيمان يعتد به بين ظهرانينا ، وبإعتبار إن العنصرية اللونية هي نقيض صارخ للتقوى وللإيمان ، الأمر مفروغ منه ، إذن فسنظل نحفر في البحر أبد الدهر .
وإذا كنا نقول ما نقول فلا يتعين علينا التصديق بأننا وفي السودان لسنا كذلك ، نحن في الواقع صحيح عبيد وسود من وجهة نظر بعض العرب ، ونحن وقد لا يعلمون نعتد كثيرا بلون بشرتنا ، ونرى أنفسنا فيها ملوكا وأباطرة ، ومع هذا فنحن وفي الواقع عنصريون أيضا ، لدينا عنصرية لونية أسود من السواد ، في هذه النقطة قد يندهش العرب من المحيط للخليج ، وكالمطر لا كالغيث ستنهمر أسئلتهم الحيرى : أبين العبيد السود أيضا عنصرية لونية ، وهم في الأصل كذلك ؟..
سؤال مشروع بالطبع ، سؤال لايقال جهرة بل همسا بعد أخذ الحيطة والحذر وحتى لا يتناهى صداه إلى أحدنا فيحدث ما لا تُحمد عقباه .
المثير والجميل هنا هو إن عنصريتنا السودانية منكفئة على ذاتها ، ولم يحدث أن وجهنا سهام حقدنا العنصري لأحد من أبناء العرب ، أي ليس لدينا عدوانية عنصرية كعدوانية الأجناس الأخرى ، ليس لأننا نرى أنفسنا الأقل شأنا بل لأننا نحترم الذات الأخرى ممن ينتمون إلى بلاد غير بلادنا ، هكذا خلقنا الله ، نحمل في دواخلنا كل التناقضات التي لا تصدق .
في تاريخنا السوداني كله لم نر عنصريا سودانيا وعدوانيا أيضا غير مصطفى سعيد ، داهية الطيب صالح في موسم الهجرة للشمال ، لقد قالها لهم وهو يحاكم في الأولد بيلي في لندن بتهمة قتلهن ، نعم ياسادتي أنا قطرة من السم الزعاف الذي حقنتم به شرايين التاريخ ، وكان مصطفى سعيد العنصري السوداني العدواني الوحيد والذي أعاد لنا الإعتبار في بلاد الإنكليز .
إذن على أمتنا العربية اللا مجيدة أن تصدق بأن كل حروب السودان الأهلية ومنذ الإستقلال وحتى اليوم ، وكل صراعاتنا الإجتماعية ، بسبب (العنصرية) ، عندنا عنصرية لونية وهذه لن يفهم سرها إلا نحن ، ولدينا عنصرية قبلية ، ولدينا عنصرية مذهبية وجهوية وطائفية ، ولدينا كل أنواع البلايا والخطايا والموبقات ، ولسنا بأفضل من العرب في جزيرة العرب وخارجها ، نحن نملك الشجاعة الكافية لقول ذلك وإذ نحن نروم الصلاح والإصلاح ما إستطعنا إلى ذلك سبيلا ، فهل شجاعتنا هذه يملكها ملوك العنصرية العرب ؟..
وعلى العرب أن يصدقوا الأنكأ من ذلك أيضا ، وهو وإنه في جنوب السودان أيضا عنصرية وذلك بعد أن تساوى الجميع في لون البشرة ، عنصريتهم لا يفهما من العالمين أحد غيرنا نحن في شمال السودان ، إذن فليكن إجتماع الجامعة العربية صاخبا إذ عليه مناقشة آفة الأفات القومية العربية (العنصرية) أعني وبكل أشكالها وأنواعها ، ثم عليه الخروج بالتوصيات الملزمة للحكومات التي طالما غضت الطرف عن هذا الوباء وهذا البلاء ، حتى إستفحل وقتل ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب
الخرطوم
dirgham@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق