الثلاثاء، 22 مارس 2016

لم أكن أعلم أنها أيضا ستموت



 نعم فقد كنت أعلم بأن الناس يموتون ، وإنهم أيضا يذهبون ولا يرجعون ، غير إنني والحق أقول لم يدر بخلدي بأن والدتي المغفور له بإذن الله حواء عبد الله يحي ستموت أيضا ، ربما إنني هربت من مواجهة هذه الحقيقة الدامغة ، فقد كانت أبدا أمامي ، وكنت أبدا في بؤرة العينين من مقلتيها ، وكانت عندي أثيرة وأميرة ووزيرة وحاكمة لا عصيان أبدا لما تقول ، في عيد الأم إشتعلت كل تلك المعاني في رأسي كبركان ، فسالت الحمم وإمتد لهيب اللظي حتى سد عليً منافذ الرؤيا فوجدتني أذكر وأتذكر كل نبرات صوتها رغم مضي سنوات على رحيلها .
كانت معي بالعاصمة العُمانية مسقط ، ثم أبدت رغبتها في الذهاب للخرطوم على أن تعود بعد بضعة أشهر كما كانت تفعل دوما ، غير إنها وفي هذه المرة ذهبت ولم تعد ، تعرضت لحادث في منزلها بالثورة الحارة الرابعة أمدرمان المنزل رقم 541 وفيه عشنا معها وفي كنفها كل طفولتنا وشقاوتنا وعبثنا حتى أضحينا رجالا تحت ناظريها ، الحق يقال فقد كانت لها نظرية تربوية بعيدة المرامي والأهداف تماما كصفية بنت عبد المطلب إذ كانت تحبس إبنها الزبير بن العوام وهو غض صغير في حجزة مظلمة وعندما سألوها لماذا تفعلين ذلك يأ أم الزبير ؟..

قالت قولتها الشهيرة :

ـ أعده لكي يكون فارسا

وكان الزبير بالفعل هو فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشق له غبار ، كانت لا تخفي شيئا من ما نفعله من عبث وفوضى أنا وأخي عباس المغترب الأن في السعودية منذ عام 1976 لا تخفي شيئا عن الوالد / محمد أبوزيد محمد رحمه الذي كان صارما في إنزال العقاب اللائق بنا عبر (سوط العنج) الذي كان يسميه الوالد بـ (سمير) لا أدري لماذا أطلق الوالد أسم سمير على سوط العنج ، كان منزلنا المشار إليه بعاليه لا يخلو أبدا من هذا السوط الذي كنا نمقته كل المقت ، والمقت كما تعلمون هو أعلى مراتب الكراهية ، وهذه الكلمة إستخدمها ذات يوم أخي صديق الذي كان معي هو الآخر بمسقط فقد كان يقرض الشعر وكان يشير فيه سيرا حثيثا وكنت أتنبأ له بمستقبل زاهر في هذا المجال غير إنه للآسف توقف عنه بعد أن أضناه السهاد ، فقد قال في قصيدة له نشرت بصحيفة  الوطن العمانية قال :

ورميت عليكِ يمين المقت دليل الرغبة في النسيان

حقيقة لم أنس ذلك البيت من الشعر ، فأخي صديق قد إستخدم الكلمة بعنف وضراوة كتأكيد على حقيقة إن ثمة جرح له كان نازفا وكان يؤلمه بما يكفي فقال ما قال .

كان الوالد وهو موظف أفنى شبابه في خدمة الدولة السودانية وفي العمل الطوعي والإنساني وبنى بجهده وعرقه مدرسة ثانوية في الثورة الحارة الرابعة أمدرمان حملت إسم مدرسة كرري الثانوية للبنات ، ثم بعد ذلك أسموها مدرسة علويه للبنات ، غافلين الجهد الذي بذله ذلك الليث الهصور محمد أبوزيد ، فهو الذي أوجدها وكنا ونحن صغارا شهود على سهره الطويل وتعبه الذي لم يجد في نهاية المطاف من يذكره له ، هكذا يكافئ الوطن أبناءه البررة للآسف .
كان الوالد عندما يعود من العمل ظهرا وما أن يخلع ملابسه ويرتدي ملابس البيت حتى تقدم له الوالده تقريرا مفصلا ودقيقا ومسهبا عن الفوضى العارمة التي خلفناها أنا وأخي عباس في البيت وفي الشارع وفي الحي ، وبعد أن تجرى محاكمة صورية عاجلة فما قالته الوالدة لا يقبل الطعن أصلا يتم إقتيادنا لغرفة (العذاب) وهي الغرفة التي يفتح بابها بإتجاه الشمال الجغرافي ، وقبلها يتم إستدعاء السيد (سمير) المعلق أصلا بالإعزاز كله في حائط الصالة وفي منتصفها كدليل على إن هذا المسكن يحكمة القانون .
وما هي إلا ثواني حتى يلعو الصراخ والعويل والتوسل عبر كلمات جزعي نقول فيها بأننا لن نعود لمثلها أبدا ، وبالفعل فإننا لن نفعلها ، والآن فقط أشبه غرفة العذاب الكائنة بمنزلنا بالثورة الحارة الرابعة بالغرفة التي كانت تحبس فيها صفية بنت عبد المطلب إبنها الزبير بن العوام ، وقد قالت في ذلك أعده لكي يكون فارسا .
الأم الحقيقية تعرف كيف تصنع الرجال ، فقد صنعت منا رجالا كواسر بحق ، بعدها فإننا كالزبير لا نخشى غير الله عز وجل ، كان في إمكانها أن تخفي عن الوالد كل العبث الذي كنا نفعله كما تفعل نساء وأمهات كُثر ، وكان في إمكانها أن تحول بيننا وبين سمير ، وكان بإمكانها أن تدللنا وتحنو علينا وتكذب من أجلنا إذ هي أم والأم تخشى على أولادها من الضرب ، كان لـ حواء عبد الله نهج خاص بها في تربية الرجال إذ هي تعدهم لمعارك حامية الوطيس لن تشهد هي تفاصيلها إذ حدثت ووقعت فعلا في المستقبل الذي ومن أجله دفعت بفلذات أكبادها لغرفة العذاب وللسيد سمير الذي لايرحم .
الآن أدرك تماما وإذ هي قد مضت للرفيق الأعلى أدرك تماما أنها كانت أبعد نظرا وأكثر حكمة وأبلغ نهجا ، ومع كل هذا وفوق كل هذا فقد كانت حريصة كل الحرص على تعليمنا وهي التي لا تقرأ ولا تكتب لكني قد رضعت الحكمة منها كما رضعت اللبن تماما ، كانت لا تنام من أجلنا ، كانت تعمل ليل نهار ، عملت في خياطة الملابس النسائية وكانت ماهرة ومبدعة ، كان منزلنا يعج بالنسوة كبارا وصغارا هن زبائن مهنتها ، وعملت أيضا كتاجرة متجولة وصلت ببضاعتها حتى مدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة ، هكذا كنت شاهدا على نضال لها مر من أجلنا ومن أجل أن نحيا بعيدا عن براثن الفاقة والعوز .
وعندما أتصلت بها هاتفيا من مسقط وهي في موض موتها وقبل يومين من وقاتها سألتها كيف حالك وأحوالك قالت لي بالحرف الواحد :

ـ ضرغام عافيه عنك دنيا وآخره ..

عندها بكيت كطفل ثم سقطت سماعة الهاتف من يدي ، زوجتي راقية يوسف سألتني لماذا تبكي قلت لها ما سعمت ، ثم سألت زوجتي لماذا قالت لي الوالدة ما قالت ، قالت : لا أدري .

بعدها بيومين وفي ذات موعد إتصالي بها جاءني هاتف من أمدرمان أفادوني فيه بان الوالدة قد إنتقلت للرفيق الأعلي ، لن أنسى ذلك اليوم أبدا ، كنت ذلك الطفل الكبير الذي فقد أمه التي كانت في عينيه باقية له إفتراضا مابقي في صدره قلب ينبض بالحياة .
سافرت للخرطوم معزيا نفسي وروحي وأهلي وعشيرتي ، بكيت بكاء الناقة على الفصيل ، ثم أبلغوني بأنها وقبيل سويعات من خروج الروح قالت :

ـ ضرغام سيأتي من مسقط وسيذبح ثور ..

وبالفعل أتيت من مسقط وذبحت ذلك الثور الذي تنبأت به قبل الرحيل ، ثم وزعنا لحمه على الناس كل الناس كآخر عطاء من الوالدة للناس ، غير إنها ستبقى في دمي وروحي حية تتحدث ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب
00249121338306

هناك تعليقان (2):

  1. الكلام المكتوب كله حقيقة و ربنا يرحمها ويسكنها فسيح جناته.
    ام سامي

    ردحذف
  2. الكلام المكتوب كله حقيقة و ربنا يرحمها ويسكنها فسيح جناته.
    ام سامي

    ردحذف