الاثنين، 21 مارس 2016

مرحلة ما بعد التقاعد

البعض يسميها الحياة الجديدة ، والبعض يسيميها الحياة القاتمة ، والبعض يسميها نهاية ما قبل النهاية ، وفي مطلق الأحوال فأن التسميات الثلاث هي نسبية تماما وبناء على الزاوية التي ينظر بها المتقاعد للحياة وللكون وللأشياء والرموز ، فالمتفائل يراها الحياة الجديدة  فعلا ، والمتشاهل يراها الحياة القاتمة إلا قليلا ، والمتشائم يراها نهاية ما قبل النهاية ، وقد ينسجم ذلك مع الجدلية المحتدمة منذ الأزل عن كينونة وما هية الجمال ، ذاك الذي قسمه الله عز وجل لشطرين فأعطى النصف الأول كله لسيدنا يوسف عليه السلام ، والنصف الثاني وزعه علي الخلائق كلها وإلى يوم الدين ، هذا الجمال الذي نظم فيه الشعراء ألاف بل ملايين القصائد من جزلة إلى عصامية إلى عصماء وشهباء ودعجاء وبعيدة مهوى القرط وبناء على الغرض من نظمها ، كان وسيظل نسبيا فما أراه جميلا وفاتنا قد تراه غير ذلك ، وما تراه ساحرا وقاصما للظهر قد أراه قاتما وعبوسا وشاحبا وكالحا ، على ذلك يتزوج الرجال النساء ، وتلد النساء الرجال ، ويموت في طلابهن الرجال بالعشق تارة ، بالصدود ربما ، وبالسيف كذلك تناغما مع ما قاله شاعر فحل : فتكات طرفك أم سيوف أبيك ، وبالهجران الأليم أحيانا ، ثم تدور عجلة الحياة لا تلوى على شئ ، تذهب أجيال ، وتأت أجيال ، والكرسي اللعين في مكانه يستقبل ويرحب ويودع بغير كلل أو ملل ، وفي الحالين لا يغمض له جفن ولا تذرف له عين بإعتباره كائنا حيا لعينا وطريدا من رحمة الله وإذ هو لا يبتهج لقادم ولا يحزن لمغادر وراحل .
الذين يسمونها الحياة الجديدة وهم المتفائلون كما أشرنا ، هم أصلا وعندما دلفوا لرحاب الوظيفة وساحات نضال العمل مستبشرين سعداء بمستقبل لهم زاهر يحصدون فيه وفي معتركه كاسات النجاج الباهر كانوا أصلا يوقنون ومنذ البدأ بأنهم تاركوه وتاركوها في يوم ما سيأتي حتما ، وإذ هم  يؤمنون بمقولة (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك) لذلك كانوا يعدون العدة ليوم الرحيل ، وكانوا يعدون الأيام والسنين ويلحظون الشيب وهو يزحف رويدا وفي سكون وسكوت تام على شعر رؤوسهم ، بل هم يعدون عدا كل الشعيرات البيضاء اليانعة صباح كل يوم جديد ، ثم يجمعون ويطرحون ، ثم يوقنون بأنهم وحتما ذاهبون وإنه لا حيلة لهم أصلا ، ثم هم يعلمون بأن التجاعيد البادية  على الوجه هي دليل حنكة نعم ، غير إنها وأيضا دليل هرم قسري لا فكاك منه .
وعندما يؤذن المؤذن فيهم بان حي على التقاعد يستقبلون النبأ ولا نقول الخبر عن طيب خاطر ، وفي يوم الوداع يأتون باكرا لجمع شتات حاجياتهم الصغيرة والكبيرة ، ولا أقول شتات أنفسهم تقديرا لهم إذ هم يعلمون ، ثم ينظفون طاولات مكاتبهم ، قم يلقون نظرة الوداع الأخير وهي نظرة موضوعية ثاقبة على ذلك العجيب والأثير والصديق الذي كان (الكرسي) والذي من أجل كرامة وعزة أقدامه الأربعة ، وحب الاحتفاظ به كصديق أبدي ، تسفك من أجله الدماء في بعض الأحيان خصوصا في هذا الزمان ، وتقطع في طلابه الأشلاء ، وتنتتهك لأجله المحارم ، وتسوى مدن وقرى بحالها بالأرض ، لكم هو ساحر هذا اللعين .
وبعد إنفضاض إحتفالات الوداع وبعد أن تٌذرف بعض دموع الزملاء رياء أو صدقا وبقدر مستوى أو حقد أو سماحة المودع ، يمضى إلى سكناته مبتهجا بما أل إليه الأمر ، ثم يبد أ في التخطيط لحياته الجديدة تماما كما بدأ أول مرة ، غير أن ثمة أختلاف هائل ما بين تلك البداية وهذه البداية والنهاية ، في الأولى كان غر صغير يافع مندفع وأهوج وأحمق ربما وأحيانا ، وفي الثانية كيس وفطن ورزين ومتزن وحكيم وحصيف أيضا ، يبدأ في تقديم خبراته للأجيال القادمة عملا بالحديث الشريف (خيركم من تعلم العلم وعلمه) لذلك نجده فاعلا إجتماعيا ، مؤثر في محيطة وقريته ومدينته وولايته ، باذلا وقته وجهده وعرقه في تقديم كل ما يمكن من خدمات ممكنة إرتقاءا بهذا المجتمع هذا وهؤلاء هم أنفسهم المشار إليهم كذلك في الحديث الشريف (لله رجال إختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم إلى الخير ، وحبب الخير إليهم ، إنهم الأمنون من عذاب يوم القيامة) ، هؤلاء هم الذين يسجل التاريخ أسمائهم بأحرف من نور ونار بعد أن قدموا للإنسانية عطاءا متفردا وخالدا ويستحق الإحترام جيلا بعد جيل .
أما المتشاهل وهو القابع بالمنطقة الوسطى الكائنة جغرافيا ما بين الجنة والنار ، فان معتنقوا هذا المذهب فأنهم ويحكم ضعف إيمانهم وعبر نظرتهم الضيقة للحياة إذ هم يرون إن المجد كل المجد قد ولى وهرب من بين أصابعهم ، وأن الوضع الإجتماعي الذي كانوا ينعمون تحت ظلال أشجاره الباسقات اليانعات قد أمسى حديث الماضي الذي لن يعود ، هم أنفسهم ويوم أحيلوا للتقاعد فإنهم وواقعيا أحيلوا إلى ما تحت التراب هكذا يعتقدون ويوقنون ، وكل الذي تحت التراب تراب كما نعلم جميعا ، لذلك نجد أن صدورهم دائما ضيقة ولا تتسع لأحد حتى لو كان هو نفسه هذا الأحد ، على ذلك تسؤ علاقاتهم الإجتماعية ما بينهم ومابين أفراد أسرهم بدءا ، ثما ما بينهم وبين أفراد المجتمع من ناحية عامة ، وإذا كانوا أصحاب علم وخبرة لا تزال مفاصل المجتمع في حاجة إليها فإنهم وفي الغالب يضنون بهذا العلم وبتلك الخبرات ، لا مانع لديهم في أن ينتقلوا بها ومعها للرفيق الأعلى ، وعلى ذلك لن يخلفوا أثرا في الحياة سيمضون كما تمضي الرياح إلى منتهاها الذي لا يعلمه غير الله .
أما المتشائم كليا ، فهو الأخطر هنا ، إذ هو يرى لونا واحدا في كل الوجود ، وإذا ما تطلع إلى قوس قزح فإنه سيرى فيه لونا واحدا فقط  هو الأسود غير إنه متدرج من الشفافية للقتامة وصولا للسواد الكالح والكامل ، هو لن يرى في الوجود ما يستحق النظر إليه ، بعدها يرى في الموت راحة وسكينة وهروب من أعين الناس إلى الخلود أو إلى فراديس الله الرحيبة وبناء لمستوى ملكة التخيل في سويداء ذاته المعتلة ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب  
00249121338306

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق