الأربعاء، 2 مارس 2016

التكريم ... بين العفة والنياشين



 التكريم ...  بين العفة والنياشين

المقال المثير للإهتمام والذي نشره الزميل والصديق الإعلامي والكاتب العُماني / زاهر بن حارث المحروقي بصحيفة الرؤية العُمانية بتاريخ الإثنين 29 فبراير 2016 الماضي بعنون (أحمد الخروصي صورة من صور العطاء) لامس وترا حساسا وملتهبا في مجتمعاتنا العربية من ناحية عامة ، وهي المآسي المسكوت عنها التي تواجه الكثير ممن نذروا أنفسهم لخدمة مجتماعتهم وأوطانهم ، أولئك الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (لله رجال إختصهم بقضاء حوائج الناس ، حببهم إلى الخير وحبب الخير إليهم إنهم الأمنون من عذاب يوم القيامة) ، هذه الصفوة الكريمة من الخيرين وقصة أحمد بن محمد الخروصي تمثل إنموذجا وضاءا وقف وإستوقف عندها المحروقي في مقالة موضع الحديث وأماط اللثام عن أبعاد غائرة ومؤلمة لمآسي لم يعد من اللآئق السكوت عنها .
 الخروصي تعرض لحادث سير عام 1983 كما أفادنا المحروقي ، وعندما أفاق من غيبوبته قالوا له إن متبرعا بالدم هو من أنقذ حياتك ، فكانت تلك الواقعة هي نقطة التحول الجوهري في حياة الرجل ، عندها بدأ إهتمامه بقضية الدم والتبرع بالدم فوصلت السلطنة بجهودة إلى حد الإكتفاء من هذا السائل الحيوي ثم سجل رقما قياسيا في التبرع عُمانيا ، ثم تعدت همته في هذا المجال بلاده إلى دول مجلس التعاون الخليجي ، ولقاء ذلك أضحى شهيرا ومعروفا في هذا المجال الحيوي ، فنال على إثر ذلك التكريم والتقدير من الكثير من المنظمات المحلية والإقليمة والدولية ، نال الشهادات التقديرية والأوسمة والنياشين كإقرار صادق بإنه كان إيجابيا في مجتمعه ووطنه ، ذلك جميل ورائع بالطبع .
هنا ندلف سريعا إلى المسكوت عنه قوميا لأسباب عديدة ربما إن الذين يضطلعون بتكريم مثل هذه الشخصيات الفذة والنادرة لا يرغبون في الواقع في الإنغماس أو الغرق في الأصعب والأهم حيث القلب ينبض بالعذاب وبالوجيعة ، آثروا السهل وسهلهم هذا له بريق يخطف الأبصار ويعمي القلوب التي في الصدور ، تلك هي سطوة وبريق الإعلام ، إحتفالات التكريم التي تقام في العادة لمثل هذه الشخصيات يصاحبها زخم إعلامي أعد له بعناية فائقة وعبر تحضيرات تستغرق وقتا طويلا ، يتم في ثناياها تجهيز وأعداد النياشين والأنواط والكؤوس وشهادات التقدير وهي لا تكلف الكثير من المال ، لن تتعدى قيمة رمز التكريم عشرون دولارا أميركيا في أفضل الحالات ، وبحساب بسيط يتعين على هذا المبلغ الزهيد ووفق لغة الرياضيات الصرفة أن يكافئ جهد رجل أفنى زهرة شبابه كلها في خدمة وأغاثة الملايين من المحتاجين وأصحاب الحاجات وربما أنقد آلاف الأرواح من براثن الموت أما جوعا أو عطشا أو مرضا إلى أخره ، وما قدمه لا يقدر بثمن بطبيعة الحال ، وهنا ينبري المجتمع وبغير خجل ليكافئ رجل قدم كل هذا الجهد  بهذا الحشف وهو الموعود أصلا بالجنة يوم الحساب ، ذاك عدل رب العزة الذي لم يتعلم منه البشر شيئا.
أمثال الخروصي وقد أضحى منذ الأن أنموذجا قوميا في هذا المجال لا يمكنه أن يتحدث عن نفسه وعن ذاته وعن أكله ومشربه ولا عن اسرته ، فالذين إعتادوا العطاء بل أمسى العطاء ديدنهم في الحياة الدنيا لا يتحدثون أبدا ولو وضعت السيوف على أعناقهم عن أنفسهم ولا عن حالهم وأحوالهم المعيشية اليومية ، لا يقولون شيئا عن مشربهم ومأكلهم وملبسهم ومسكنهم ، لن يقولوا لك شيئا عن ما إذا كانوا مرضى أو أصحاء ، ذاك هو عينه نكران الذات المسمى بـ (العفة) وأهليهم يسمون بالأسر (المتعففة) ، إنهم يتركون الأمر جميعه لفطنة المجتمع ولذكاء لجان التكريم ، والمجتمع ولجان تكريمه لا ترغب في الغوص في أتون الأصعب ، إنه يتغابى عن عمد ، رغم حرصة رياءا على التأكيد على إنه قد أوفي ووفي في يوم التكريم المزعوم ، وهو في الواقع بعيد كل البعد عن الوفاء ووفق أي صيغة كانت .
لجان التكريم تعلم ، وراعي حفل التكريم يعلم ، والحضور يعلمون ، والصحافة تعلم ، والإعلام يدرك ، الكل يخدع الكل في تلك الحفلة التنكرية الصاخبة الماجنة ، الكل يعول على إن المُكرم لن يفصح عن آلامه وأوجاعه الحياتية الخاصة ، هم يعلمون بانه وإن كان جائعا لضيق ذات اليد فلن يعلم أحد من الناس بأنه كذلك حتى يسقط خائر القوى ، ثم هم يعلمون بأن أولاده وأن مرضوا وجاعوا وتشردوا فلن يعرب عن ذلك لا لقسوة قلبه بل لأنه ما خلق للشكوى أصلا ، إذن هم المعذبون وحدهم في وطن لا يعرف كيف يكافئ رجاله الأبرار للآسف .
المحروقي إستعرض قصة بليغة عن رجل تم تكريمه بدرع ، إستلم الدرع ثم دخل السوق وباعه ليشتري عشاءا لأولاده ، ولأن الهم واحد ، والمأساة واحدة أخي زاهر ، فلنا في السودان قصة مشابهة لرجل كالخروصي العُماني خدم مجتمعة عشرات السنين ، وقرر المجتمع تكريمه والإحتفاء به ، وفي الحفل قدم للمحتفي به لقاء جميل صنيعه ووسط التهليل والتكبير قدموا له مصحفا وسجادة صلاة ، صعد المنبر وقال قولته الشهيرة والتي جرت مثلا في هذا الضرب من الجحود المجتمعي :

ـ كتاب الله بنقبله ، لكن الفيكم إتعرفت ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتي سوداني عُماني
00249121338306

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق