الجمعة، 6 سبتمبر 2019

عندما تموت الأشجار واقفة


عندما تموت الأشجار واقفة

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب
00249121338306

انتقل للرفيق الأعلى عصر يوم الثلاثاء 5 سبتمبر 2019 خالي الوحيد والأثير والعزيز يحي عبد الله يحي إبراهيم ، وذلك بعد صراع مرير مع قسوة الزمن ومع تراكمات السنين التي وقفت أمام ناظريه كجبل يعانق عنان السماء فلم يمنحه فرصة إختلاس النظر إلى مابعد خط الأفق للمرة الاخيرة على الأقل  .

ثم هو نفسه أحسبه قد زهد منها وفيها ، جلست إليه قبل فترة قصيرة من رحيلة كان ينظر إليها من طرف خفي ، وبنصف عين واحدة لا أكثر ، كأنه يقول أنها لا تستحق أكثر من ذلك ، وما بين حنايا الصدر المفعم بالذكريات البعيدة الغائرة والتي يستلهما من بئر مظلمة الأعماق كنت أحسبه يقول كما قال زهير بن أبي سلمى  :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا ابا لك يسأم

الخال وصل لذات قمة الجبل الذي وصفه لنا هذا الشاعر الجاهلي الفحل ، لذلك لم يكن يعبأ بالموت كثيرا أو قليلا ، لم يعد ير في الآفاق أي فرح يستحق أن ينال منه نصف إبتسامة ناهيك عن ضحكات مجلجلات ، فقد ولى زمان الضحك ، وإنقضى أوان الإبتسام ، قد تجاوز الخال الثمانين حولا التي وصفها زهير للوصول لقاع الزهد ، وإن كان الخال بات ينتظر هذا الذي تهابه الملوك بيقين وصبر وجلد ، فإنه في الواقع يعلم يقينا بأنه أوفي ووفي في عمره الطويل الذي إختصه الله به كعطاء من القادر للعبد الشاكر .
الخال كان ميكانيكيا بارعا في مصلحة النقل الميكانيكي تلك المؤسسة القومية التي دمرتها حكومة الإنقاذ فيما دمرت من خمائل السودان الوطن .
كانت تربطني به علاقات خاصة وحميمة منذ أن كنت طفلا ، وأدين له بكل ما أنا فيه ، لقد تعلمت منه الفصاحة والبلاغة وأصول الكلام ، كان ذكيا ولماحا وخارقا ، أعطاه الله بسطة في الجسم والعلم ، إستلهمه من القراءة والإطلاع والتمعن ، عندما كنت في السنة الأولى أوسطي وكانت الأسرة في مدينة 24 القرشي بولاية الجزيرة ، فالوالد عليه رحمة الله كان موظفا في إدارة الموظفين العموميين وكان دائم التنقل والترحال ما بين المدن السودانية ، جئت إلى أمدرمان وإلى حي العباسية شرق دكان عابدين بشارع الأربعين لأسكن مع الخال في بيته ، لم يتزوج طيلة عمره ، لقد كرس حياته كلها لكفالة أبناء أخته خديجه عبد الله يحي عليها رحمة الله ، محمد وشعيب أبناء آدم شعيب ، وهما اليتيمان اللذان لم يريا والدهما قط ، ثم تكفل بعد ذلك بمختار إبن أبوبكر وإبن خديجة أيضا ، إضافة لكفالة أخته الأخرى فاطمه التي ترك لها زوجها إبن واحد هو يوسف عثمان حسن ، تلك كانت أسرة الخال يحي ، قام تجاهها بكل الواجب الذي يقوم به الأباء حيال أبنائهم وأسرهم ، ثم جئت أنا لألتحق بتلك الأسرة قادما من ولاية الجزيرة حيث الوالد والأخوان والأخوات ولأدرس المرحلة الوسطي .
تلك السنة التي سكنت فيها مع الخال ، كانت في الواقع نقطة التحول الجوهرية في كل حياتي ، لذلك فإن الخال عندي هو أهم منعطفات حياتي كلها .
لقد حدثت في تلك السنة أمور عظام رسمت خطوط مستقبلي المهني والعملي بكل تفاصيلة العريضة والدقيقة ، صالون الخال وهو الميكانيكي كان في الواقع عبارة عن مكتبة ضخمة ، فيها كل المجلات والإصدارات التي كان تصدر في ذلك الزمان أي في نهاية الستينات ، مجلة المصور ، روزليوسف ، آخر ساعة ، العربي ، والكثير من الكتب والإصدارات ، لقد عشقت صالون الخال وكان مزاري الأثير نسبة لما به من كنوز ثقافية هائلة ، لقد إلتهمتها كلها ببساطة وشغف ، ثم ما بعد ذلك حدث ما لم أكن أعرف سره ولا أسبابه .
في المدرسة أجريت مسابقة للصفوف الثلاثة في لكتابة موضوع أو مقال لم أذكر عنوانه لفائدة صحيفة المدرسة الحائطية ، أشتركت فيها ، لم أحس بأي عناء أو جهد وأنا أكتب مشاركتي في تلك المسابقة ، ثم أعلنت النتيجة ، مقالي هو الفائز على مستوى المدرسة ، سألوني كيف كتبته ، لم تكن لي إجابة محددة ، ولم أعرف لماذا كل هذا الكلام كان يكتنز في رأسي .
فيما بعد أدركت بأن ذلك ناتح عن ما قرأته بديوان الخال ، وتلك كانت الإنطلاقة الكبرى في دروب الكتابة ، في كل المراحل الدراسية كان دفتر مادة الإنشاء أو ما يسمى اليوم بالتعبير يمتلئ في بضع موضوعات ، وكان الأساتذة يطلبون مني قراءة ما كتبته أمام الزملاء ، وكنت بعد ذلك المشرف على الجمعية الأدبية في المرحلة الإعدادية .
لقد أسر لي الخال عليه رحمة الله بسر الأسرار ، وهو القراءة والإطلاع ، وكان صالونه وثقافته واسعة الأرجاء هي التي وضعتني فيما بعد في طريق الأشواك الطويل الذي سرت فيه وفي جعبتي قلم  قادر على التصوير والتحليل ، وهو ذاته القلم الذي حفرت به إسمي في الجبال النارية بالعاصمة العُمانية مسقط ، لم يكن القلم قلمي ولا المداد مدادي ، كان الخال هو صاحب كل هذا العطاء ، لذلك كان في الواقع صديقي الأثير ، كنت أفهم لغته تلك العميقة المكتنزة بالهمسات واللمسات التي لا يشعر بها إلا من أمتلك أسرار اللغة ، لهذا كان جلوسي معه يطول ، والحديث معه غير خاضع لمعنى الملل ، كان يفتقدني إذ ما غبت عنه ، وكنت أحن إليه عندما تشغلني عنه أنواء الحياء ، كان هذا الميكانيكي الخال هو أستاذي الأول ، ومدرستي الأولى ، والواحة الظليلة التي انيخ فيها مطاياي بعد كل سفر وترحال مابين المدن البعيدة النائية .
كنت أقول له ضاحكا لولاك لما تعلمت من الحياة شيئا فإنت أستاذي الأكبر ، كان يضحك ويقول بل إنت أستاذي ، يا للهول أنا أستاذ لهذا الجبل الشامخ ، أي تواضع ذاك الذي كان يعتريك ياخال ، وأي زهد ذاك الذي الهمك لرفض قلادة الوفاء التي كللت بها جبينك وأنا أوقن بأنني لم أستطع رد الجميل كله ، فما منحتني أياه لا يرد ، سيبقى في العقل وفي القلب وفي الفؤاد إلى أن يأذن الله بأمر كان مفعولا ، وما سيأذن به الله معروف للكل إذ ستبقى من بعد ذلك تلك الأمنية الأعز وهي أن ألتقيك في ظلال رحمته وفي فردوسه الأعلى مع النبين والصديقين والشهداء ..  



هناك تعليق واحد:

  1. رحمه الله رحمة الأبرار وجعل مثواه الجنة
    هكذا هم العظماء يموتون وقد صنعوا لهم اثرا طيبا يذكرون به .

    ردحذف