يعمل سائقا ، لديه سيارة (بوكس) هي المصدر الوحيد لرزقه ورزق عياله ،
ذات يوم إستوقفته امرأة مع شقيقتها طلبتا منه أن ينقل لهن بضائع من الخرطوم
لأمدرمان في مقابل 150 جنيها ، كان هذا قبل 13 عاما من الآن ، وافق وقام بشحن
البضائع التي إرتفعت لأعلى وبنحو يخل بقانون المرور ، وعند عبوره كبري الإنقاذ
الذي يربط بين الخرطوم وأمدرمان فوق النيل الأبيض إستوقفه شرطي المرور ، وحرر له
مخالفه لقاء الشحن الخاطئ ، غير إنه وفي سبيل إقناع الشرطي لتجاوز المخالفة أقسم
له بأن هذه البضائع تخصه شخصيا ، وأن المرأة التي تجلس عن يساره هي زوجته ،
والأخرى شقيقتها ، وإنه في الواقع ينقل هذه البضائع لمنزله الجديد في أمدرمان
والذي إنتقل إليه مؤخرا .
الشرطي طلب منه النزول وإنتظاره هناك على بعد بضعة أمتار ، ذهب إلى
حيث أمره الشرطي وفي نفسه كانت أهازيج الظفر تعلو وتهبط كأمواج النيل الأبيض على
بعد مرمى حجر من حيث هو .
لم يكن يدري لماذا أمره الشرطي بإنتظاره هناك ، لم يدر بخلده قط أن
الشرطي سيسأل النسوة عن علاقة الرجل الاجتماعية بهن ، السؤال كان مباغتا ومباشرا
لهن ، فأجبن ببرأة إنهن قد إستئجرنه لنقل بضاعتهن وفقط ، ثم سأل المرأة التي عن
يساره هل هو زوجك ، نفت بشدة ، ويبدو إنها لم تنتبه لما قاله السائق للشرطي قبل
سويعات .
توجه الشرطي للسائق وكانت إبتسامات الظفر الكذوب لا تزال مشرقة على
شفتيه ، وإبتدره بكلمات قاصمات للظهر : أنت كذاب ومنافق .
قال لي اليوم حيث أجتر الحكاية وكنا نتحاور حول الصدق والوعد لقد
قتلني ذلك الشرطي منذ 13 عاما مضت ، وإستطرد تمنيت صادقا أن يخسف الله بي الأرض في
ذلك اليوم الأغبر وأن لا أسمع هذا النعت الساحق ، تمنيت أن يحقق الله عز وجل لي أمنية
مريم البتول عليها السلام عندما قالت : ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .
وأضاف لم أستطع أن أرفع عيناي لوجه الشرطي ، كنت أنظر فقط للأرض ،
كانت كلماته تلهب ظهري بسياط من نار ، وكنت أرددها في سري وعلني أنا كذاب ومنافق ،
نعم أنا كذاب ومنافق ، إذن أنا وعبد الله بن أبي سلول في ذات الدرجة الرفيعة ، يا
ألهي ماذا فعلت لنفسي وبنفسي ، وفي هذه النقطة تسربل الدمع من عينيه رغم أن
الحكاية حدثت منذ أكثر من عقد من الزمان :
قال : لقد كرهت نفسي عندما إستطرد شرطي المرور لن أسامحك أبدا ، عليك
دفع المخالفة كاملة وهي 50 جنيها وفورا ، حرر لي مخالفة على المخالفة ، لكنه لم
يحرر لي مخالفة مالية على حكالة كوني منافق وكذاب ، ياليته حرر لي مخالفة مالية
تمسح عني عار حقيقة إنني بالفعل كذلك ، يالتفاهتي ، يالحقارتي من أجل الهروب من
دفع 50 جنيها أتساوى مع الملعونين في القرآن .
كنت كالمخمور أتهادي في الطريق بحثا عن شخص ما يقرضني قيمة المخالفة ،
فأخر 50 جنيها كانت بجيبي إشتريت بها بنزين قبل تلبية هذه المشوار اللعين .
على بعد مائة متر وجدت بقالة على الطريق ، طلبت من البائع أن يقرضني
50 جنيها لأدفع قيمة المخالفة وأعطيته هاتفي النقال كضمانة .
البائع هو الآخر لم يرحمني ولم يراعي ضعفي وقلة حيلتي وهواني على
الناس ، قال لي خذ المبلغ لكنني لن أستلم منك الهاتف ، فإن أعدت المبلغ الحمد لله
وإن لم تعده أسال الله أن يسهل عليك ، كانت تلك الطعنة الثانية في تلك الليلة
الليلاء ، لقد وصلت رسالة الله عز وجل إليّ
سريعة ومفادها لو أنك قلت الحقيقة للشرطي لأوجدت لك مخرجا ، وهاهو
المبلغ الذي نلت بموجبة شهادتك القذرة قد أعطيناك له سهلا وعلى بعد خطوات من حيث
الواقعة ، تماما كما اعطينا رسول الله الكوثر قبل ذلك ، أخذت المبلغ وعدت للشرطي
ودفعت قيمة المخالفة وكنت لا أزل مطاطئ الرأس ، ويتصبب العرق من رأسي غزيرا ، لم
أجرؤ على النظر لوجه الشرطي ، ولا أدري ماذا كان عالقا بوجهه من سيماء الإحتقار
لهذا الكائن الوضيع .
أكملت مشواري ، ولم أنبس ببنت شفة ، لم أقل للنسوة شيئا ، فهن كن أرجل
مني وأصدق مني لقد قلن الحقيقة ، أما أنا فقد نلت أشنع شهادة تقدم لمسلم ولا أقول
لمؤمن على وجه البسيطة ، سألت الله في سري وفي علني أن يغفر لي هذا الذنب الوبيل ،
والأمر والأدهى إنني وبعد أن أكملت المشوار وإستلمت قيمته عدت للرجل الذي أقرضني
المبلغ ، صفعني بقسوة عندما رفض إستلام الـ 50 جنيها تلك التي أوردتني مورد الهلاك
، تعسا لي .
بعدها بسنوات أصطحبت والدتي للعمرة ، وأنا أطوف حول البيت العتيق
جاءني الموقف والمشهد الأسوأ في كل حياتي ، جميعنا كنا هناك أنا والنسوة وشرطي
المرور فضلا عن كذباتي القاتلات ، لا أدري كيف وصل كل هؤلاء إلى مكة المكرمة ، فها
أنذا الكذاب والمنافق أطوف حول البيت العتيق سائلا الله المغفرة والتوبة ، إنتقلت للسعي
بين الصفا والمروة ، كان الشرطي يركض من خلفي ومن أمامي وهو يردد كلماته القاتلات
، كذاب ومنافق ، عندما أكمل الحكاية كانت الدموع تبلل وجنتيه ..
ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب ـ الخرطوم
dirgham@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق