الثلاثاء، 15 يناير 2019

هل كان العراق بالفعل أفضل ؟..



مقالنا بجريدة أصداء الإلكترونية العمانية بعنوان :

هل كان العراق بالفعل افضل


http://asdaaoman.com/tie-ways/هل-كان-العراق-بالفعل-أفضل-؟/

  
تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها مؤخرا الرئيس الأميركي ترامب ، قال وبعيد زيارته التي لم يعلن عنها مسبقا لجنوده ان العراق في عهد صدام حسين كان أفضل من عراق اليوم ، وأن صدام كان مخيفا بما يكفي ليجعل هذا البلد آمنا مطمئنا بخلاف ماهو عليه اليوم أذ وصفه ووصمه بأنه بات بؤرة للإرهاب ، وإنه لم يعد دولة كما كان بل هو عبارة عن كيانات متقاتلة لا رابط بينها ، وكذلك الحال بالنسبة لليبيا بعد أن هبت عليها نسائم الربيع العربي فإقتعلت القذافي العتيد ومن الجذور .

إنتقادات ترمب للوضع القائم بالعراق كان مفاجئا ومؤلما للعرب الذين آزروا أميركا (البوشيه) في حربها الإمبريالية التي أفضت للإطاحة بصدام وإعدامه بعد ذلك وفي الشهر الحرم .

هنا نسأل هل كان العراق بالفعل أفضل تحت ظل حكم المهيب صدام حسين ، وهل كان ترمب محقا في ماذهب إليه ؟..

للإجابة على الأسئلة وبنظرة موضوعية على الواقع المعاش الآن في العراق الشقيق فإننا لا نملك غير أن نقول بأن ترمب كان محقا بالفعل ، فالعراق الصدامي كان بالفعل أفضل ، وكان شامخا وقويا ومخيفا وكان ثقلا قوميا عربيا هائلا لايمكن تعويضه ، وأنه بموت صدام فقدت الأمة العربية أهم شخصياتها على الإطلاق في منظومة إعتدال ميزان القوى مع إسرائيل ، لقد إختل هذا الميزان ورجحت كفة إسرائيل على العرب جميعا بسقوط العراق الصدامي ، كما أن كفة ميزان القوى الأخرى والهامة في المنطقة في إطار ميزان القوى مابين العرب وإيران قد إختلت هي الأخرى وباتت طهران تملك القدح المعلى في المنطقة بعد رحيل صدام وليس قبله بالتأكيد .

تلك حقائق باتت راسخة وثابتة ومستقرة ولاغبار عليها ولا جدال حولها .

فعلى الصعيد الداخلي البحت وبما إنني كنت ببغداد وكانت وقتها عاصمة لأبناء الأمة العربية جميعهم وليست عاصمة للعراق وللعراقيين فحسب ، وقتها كانت الحرب العراقية الإيرانية في مطلع الثمانينات على أشدها ، وكانت الجحافل الصدامية قد أخترقت الحدود الإيرانية وتوغلت في العمق الإيراني بغير أن تجد مقاومة تذكر ، وكانت اليد الطولى لصدام طائرات السوبر أيتندار الفرنسية الصنع تحلق في سماء العاصمة طهران ثم تعود لقواعدها سالمة في العمق العراقي ، وكان مفاعل تموز النووي العراقي الصدامي يمضي بخطي ثابتة بإتجاه تخصيب اليورانيوم كإشارة واضحة بأن القنبلة النووية العراقية آتية لامحالة ، وكان علماء العراق الأفذاذ يبدعون في العلوم والرياضيات وفي التصنيع الحربي وتصميم الصواريخ بعيدة المدى التي نزلت لا بردا ولا سلاما بعد ذلك بصحراء النقب في سعي لها حميد لإصابة مفاعل ديمونه الإسرائيلي .

وكنا ننعم بإحترام كامل طلبة عرب ، ولا فرق بين العربي والعراقي في كافة المعاملات المدنية بالعراق وقتئذ ، وكان نحظى براتب قدره 50 دينارا شهريا من الحكومة العراقية ، وكان نعيش في سكن مجاني مزود بكل وسائل الراحة والنعيم ، بحي الوزيرية الفاخر ببغداد ، كنا نصرف في الشهر كله من أكل وشرب وملبس مبلغ 15 دينارا فقط ، وكان الباقي عبارة عن توفير كامل النصاب ، كنت محاطا بالزملاء العراقيين من كافة محافظات العراق ، لكنني والحق أقول لم أكن أعلم بأن في العراق سنة وشيعة ، ما كنت أعرفه أن هؤلاء القوم مسلمون وفقط ، كما لم أكن أعلم بأن هناك أكراد بمعنى أنهم قومية مختلفة ، كان كل الناس عراقيون ، وكلهم كانوا يتحدثون بلهجة واحدة ، وكنت أتحدث معهم بلهجتهم كما يتحدثونها .

كان الولاء في العراق للوطن في المقام الأول ، ثم للقائد المهيب صدام حسين ، وكانت شوارع بغداد نظيفة وجميلة وأنيقة ، وكان شارع الرشيد يتحدث بلسان الخليفة هارون بلسان مبين ، كانت لي زميلة لن أنساها أبدا تلك هي العراقية الكردية نضال عمران الشريف ، كانت على تواصل معي حتى عندما جئت للعاصمة العُمانية مسقط عام 1984 ، بعدها إنقطعت عني ولا أدري أين هي الآن ، هل ياترى أمست ضحية كملايين الضحايا الذين ذهبوا في حروب العراق اللاحقة أم ماذا حل بها ، لا أدري ، فقد فقدت كل الزملاء العراقيين الذين عشت معهم أحلى أيام شبابي ، فما حل بالعراق كفيل بحرق ثم دفن كل الذكريات في مقابر الأسى والضياع .

صدام حسين كان سخيا وكريما تجاه الطلبة العرب ومحرم وصفهم بالأجانب ، تلك كانت عقيدة حزب البعث العربي الإشتراكي ، وكان حزبا قوميا كما تعلمون وقوميته تلك جرت عليه غضب معظم الأنظمة العربية كما هو معروف ، النظرية البعثية كانت تؤمن بوجود فرع بعثي في كل عاصمة عربية ، وهذا لايجوز بطبيعة الحال في ظل مبدأ إستقلالية الدول ، هذا هو الخلاف الأكبر لصدام مع أمته العربية .

إذن كيف إستطاع صدام أن يوحد كل أطياف العراقيين تحت علم الوطن والوطنية ، تلك كانت أعظم إنجازاته التي أتضحت اليوم وإذ العراق شراذم وطوائف وأثنيات مختلفة ومتباينة ومتصارعة ، لقد فوجئت وأنا في الخرطوم عندما أعلن الناعي إقتلاع صدام بوجود كيانات شيعية وأخرى سنية وأنهم يتقاتلون ، سألت نفسي أين كان هؤلاء في عهد صدام ، لم أسمع قط والله على ما أقوله شهيد بأن في العراق أصلا يوجد سنة وشيعة ، كما أن زميلتي نضال عمران لم تقل لي أبدا إنها كردية ، علمت ذلك بالصدفة المحضة فيما بعد وأنا في العاصمة العُمانية مسقط ، كانت تقول وبفخر بأنها عراقية ، وكان السنة والشيعة وبما إنهم كانوا هناك كما إتضح لي مؤخرا فإنهم وجميعهم لم يقولوا أبدا ولا همسا بأنهم كذلك ، كانوا جميعهم يقولون بأنهم عراقيون وكفى ، على ذلك كانت الشعارات المكتوبة بخط عريض على حوائط المنازل وعلى هامات الشوارع ببغداد تقول (قادسية صدام قادسية العرب جميعا) ، هكذا كان صدام يرى بأن نزاله مع الجاره إيران كان نزالا قوميا ، وكانت إذاعة وتلفزيون بغداد يردد الأناشيد الحماسية التي تمجد الحرب وتحض عليها .

وبما إن العراق الصدامي كان مشروعا لدولة عربية عظمى فإن إسرائيل كانت تعلم بان هذا الصدام لن يتركها وشأنها ، وكانت تعلم يقينا بأن قنبلة صدام النووية وعندما تكتمل فإنه لن يتورع في إرسال صاروخ يحملها لتل أبيب مع كل باقات عطرة من الحب والتقدير ، لذلك فإن مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت قرر التخلص من هذا المفاعل الكارثي لدولته ، ونحن في الطابق الثاني سطح سكننا الفاخر بحي الوزيرية ببغداد وحوالي الساعة الخامسة ظهرا رأينا بالعين المجردة سربا من مقاتلات الفانتوم وعرفنا في مابعد إنها إسرئيلية كانت تطير بمستوى الأشجار بإتجاه مفاعل تموز وحتى لاتلتقطها الرادارات الصدامية ، وبعدها سمعنا ورأينا إنفجارات مدوية صمت الآذان بإتجاه موقع المفاعل .

بعدها مباشرة أطل مناحيم بيجن من على شاشات التلفزيون في تل أبيب ليعلن للعالم قيام سلاح الجو اليد الطولى لجيش الدفاع الإسرائيلي بتدمير مفاعل تموز العراقي الصدامي آخر مفخرة للعراق وللأمة العربية بأسرها ، لقد إستغل ميناحيم بيجن إنشغال صدام بنزاله الدموي مع طهران للنيل من هذا المفاعل الأسطوري .

لذلك ولكل ذلك فإن ماقاله ترمب هو عين الحقيقة فالعراق الصدامي ولو كانت فيه فقط هياكل للشورى فاعله لنهت صدام عن إرتكاب أشنع أخطاءه على الإطلاق بغزوه لدولة الكويت الشقيقة ، تلك كانت القشة التي قصمت ظهر بعير الأمة العربية ، وتلك كانت النكبة التي أخرجت العراق من معادلة ميزان القوى في المنطقة ، وعلى ذلك هاهي الأمة العربية التي ماعادت مجيدة إذ صدام كان يصفها بأنها كذلك ، هاهي تلعق جراحاتها الغائرة والتي لانعلم يقينا إن كانت ستندمل بعد صدام أم انها ستبقى نازفة وإلى الأبد ..

ضرغام أبوزيد
صحفي وكاتب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق